أنفاس الحكومة الأخيرة..حصيلة منقوصة ورهانات مؤجلة

بدر الزاهر الأزرق
أستاذ محاضر في قانون الأعمال، جامعة الحسن الثاني – الدار البيضاء
سوق الشغل والقطاع غير المهيكل: الوجه المكشوف للاختلالات البنيوية
يدخل المغرب مرحلة سياسية فارقة، إذ تقترب الولاية الحكومية من نهايتها في أجواء غير عادية. فالسنة الأخيرة ليست فقط لحظة تقييم حصيلة عمل خمس سنوات، بل هي أيضا سنة انتخابية بامتياز حيث تتداخل الحسابات السياسية مع الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية، ويشتد الصراع داخل الأغلبية نفسها بين من يريد التبرؤ من كلفة بعض السياسات ومن يسعى إلى توظيف المنجزات لمراكمة رصيد انتخابي. لكن وسط هذا الضجيج السياسي، تظل لغة الأرقام أكثر إفصاحا من الشعارات.
أبرز ما يطبع الحصيلة الراهنة هو إخفاق السياسات التشغيلية في تحقيق الأهداف المعلنة. فبعد أن قفز معدل البطالة إلى 13.3 في المئة سنة 2024، عادت النسبة إلى التراجع الطفيف في منتصف 2025 لتستقر عند 12.8 في المئة، لكن هذه الأرقام لا تخفي أن البطالة في صفوف الشباب تجاوزت 36 في المئة، وأن بطالة النساء بلغت قرابة 20 في المئة. وهو ما يكشف أن التحدي لم يكن في التحكم في المعدلات العامة فقط، بل في توفير فرص عمل حقيقية للفئات الأكثر هشاشة. فالاقتصاد المغربي، رغم استقراره النقدي والمالي، ما زال عاجزا عن توليد فرص شغل قادرة على استيعاب أفواج الخريجين سنويا.
إلى جانب ذلك، يظهر القطاع غير المهيكل كأكبر عقدة اقتصادية واجتماعية. فحسب تقارير وطنية ودولية، ما يفوق 2 مليون وحدة إنتاجية تنشط خارج الإطار القانوني والجبائي، أي ما يقارب 83 في المئة من النسيج المقاولاتي. وهو واقع يعكس فشل الحكومات المتعاقبة، وليس فقط الحكومة الحالية، في إدماج هذا القطاع ضمن الاقتصاد المنظم. والأخطر أن هذا الفشل لا يقتصر على حرمان العمال من الحماية الاجتماعية والحقوق النقابية، بل يتعداه إلى استنزاف مالية الدولة عبر التهرب الضريبي وضياع المداخيل، وهو ما يضاعف الضغط على الفئات المهيكلة التي تتحمل العبء الضريبي. ويبدو أن كل الإجراءات التي تبنتها الحكومة من مأسسة الحوار الاجتماعي ورفع الأجور وتخفيف العبء الضريبي عن الطبقة المتوسطة لم تجد طريقها إلى معالجة جوهر المشكل.
هنا يصبح السؤال الجوهري: هل يكفي رفع الأجور أو توقيع اتفاقيات اجتماعية لإقناع المواطن بأن أوضاعه تتحسن، في الوقت الذي يظل فيه ملايين العمال خارج دائرة القانون والحقوق؟ الجواب الأوضح أن نجاح أي سياسة اجتماعية يظل رهينا بقدرة الدولة على كبح تمدد القطاع غير المهيكل وإدماجه تدريجيا في النسيج المنظم، وهو ما فشلت فيه الحكومة الحالية رغم اعترافها المتكرر بضرورته.
قانون المالية: بين ضغط الاستدامة وإغراءات السياسة
إذا كان التشغيل والقطاع غير المهيكل يمثلان المرآة التي تنعكس عليها حدود السياسات الحكومية، فإن قانون المالية يمثل الآلية التي تحاول بها الحكومة التدارك في اللحظات الأخيرة. فقد جاء قانون المالية لهذه السنة محملا باعتمادات ضخمة، وُجهت بالأساس لاستكمال مشاريع كبرى، من إعادة إعمار الحوز الذي بلغت نسبة إنجازه 90 في المئة، إلى مواجهة تداعيات الجفاف، وصولا إلى تنزيل الحماية الاجتماعية بمختلف أبعادها من دعم مباشر وإصلاح صناديق التقاعد وتوسيع البنيات الصحية وتسريع تكوين أطر جديدة في قطاع الصحة. وهي كلها أوراش حيوية، لكنها في الآن نفسه تطرح علامات استفهام حول مدى قدرة المالية العمومية على تحمل تكلفتها دون تهديد التوازنات الكبرى.
لقد سعت الحكومة إلى طمأنة الرأي العام والأسواق عبر تأكيدها على مواصلة إصلاح النظام الضريبي، وخفض العجز الموازناتي، وتقليص سقف الاستدانة الخارجية. غير أن هذه الفرضيات تبدو في جزء منها متفائلة أكثر من اللازم، لأن واقع المالية العمومية يظل مثقلا بتبعات الجفاف وتباطؤ النمو وامتداد آثار الأزمات العالمية. صحيح أن الحكومة استطاعت تحقيق استقرار نسبي في السياسة النقدية، وتحكمت تدريجيا في معدلات التضخم، ورفضت الانسياق وراء الدعوات المتسرعة لتحرير سعر صرف الدرهم، كما عمدت إلى خفض سعر الفائدة لتشجيع الاستثمار والاستهلاك، وهذه كلها نقاط تُسجّل لها. لكن هل تكفي هذه المكتسبات الجزئية لتغطية الفجوات العميقة في بنية الاقتصاد؟
قانون المالية، في هذا السياق، يبدو أقرب إلى وثيقة سياسية منه إلى برنامج إصلاحي متماسك. فالموارد المرصودة لا تخلو من بعد انتخابي يروم تلميع الحصيلة الحكومية وتخفيف كلفة بعض الإخفاقات، أكثر مما تجسد رؤية طويلة المدى قادرة على معالجة الأعطاب البنيوية. فالإصلاح الضريبي لم يستكمل، والحكامة في تدبير الاستثمار العمومي لا تزال موضوع انتقاد متكرر، والاستدامة المالية باتت رهينة بمعادلات هشة، خاصة إذا ما تراجعت مداخيل الدولة أو ارتفعت كلفة الدعم الاجتماعي.
زمن ضيق ورهانات ثقيلة
عندما يقترب عمر الحكومات من نهايته، يغدو الزمن السياسي أثمن من أي شيء آخر. فالمشاريع الكبرى لا يمكن أن تؤتي أكلها في شهور معدودة، والملفات الثقيلة مثل البطالة والقطاع غير المهيكل والحماية الاجتماعية لا يمكن حلها بقرارات ظرفية أو بسنوات قليلة من العمل. لذلك فإن التحدي الحقيقي للحكومة في سنتها الأخيرة ليس في إنجاز ما لم يُنجز، بل في قدرتها على ترك بصمة إصلاحية صلبة تتيح للحكومة المقبلة أن تنطلق من قاعدة أفضل. الرهان اليوم هو ما إذا كانت هذه الحكومة ستنجح في تثبيت بعض الإصلاحات الجوهرية، أم أنها ستكتفي بترحيل الإشكالات الكبرى إلى من سيأتي بعدها. وفي كلتا الحالتين، فإن حصيلتها ستظل موضوع سجال سياسي محتدم، ليس فقط لأنها جاءت في سياق انتخابي محتدم، ولكن لأنها عكست حدود السياسات العمومية في مواجهة اختلالات بنيوية تراكمت لعقود.
إن المواطن المغربي ينتظر من الحكومة أكثر من الأرقام والبيانات، ينتظر رؤية واضحة تعالج جذور الأزمة لا مظاهرها فقط. وما ستتركه هذه الولاية في ذاكرة الرأي العام لن يكون حجم ما صرفته من اعتمادات مالية، بل قدرتها على إحداث تحولات ملموسة في معادلات الشغل، والعدالة الاجتماعية، والاستدامة الاقتصادية. أما إذا ظل الإصلاح مؤجلا إلى أجل غير مسمى، فإن آخر سنة للحكومة لن تكون سوى فصل إضافي في قصة تأجيل الإصلاحات الكبرى التي لا تحتمل المزيد من التأخير