اعتراف بريطانيا بمغربية الصحراء: تحول استراتيجي في موازين الدبلوماسية الدولية

بشرى عطوشي
أثار إعلان وزير الخارجية البريطاني دعم بلاده لمبادرة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء، باعتبارها الحل “الأكثر جدية وواقعية وصدقية”، اهتمامًا بالغًا في الأوساط السياسية والدبلوماسية الإقليمية والدولية. فبالرغم من أن عدة دول كبرى سبق أن دعمت المبادرة المغربية، إلا أن الموقف البريطاني الأخير يكتسي أهمية استثنائية تتجاوز بعدها الثنائي، ليشكل تحولًا استراتيجيًا في بنية العلاقات الدولية المتعلقة بهذا النزاع الإقليمي المزمن.
التحول في الموقف الأوروبي داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه
بريطانيا تُعد أول دولة أوروبية كبرى تُعرب عن دعم صريح ومباشر للحكم الذاتي المغربي بعد مغادرتها الاتحاد الأوروبي (Brexit). وهو ما يمنحها هامش تحرك سياسي مستقل عن التوجه الأوروبي المتحفظ غالبًا تجاه النزاع. هذا التحول يُكسب المغرب حليفًا خارج المنظومة التقليدية، قادرًا على التأثير في التوازنات داخل أوروبا نفسها، وتحفيز شركاء تقليديين آخرين على إعادة تقييم مواقفهم، خاصة في ظل التوترات التي شهدتها العلاقات المغربية مع بعض العواصم الأوروبية في السنوات الأخيرة.
دور بريطانيا كقوة دائمة في مجلس الأمن
انضمام بريطانيا، إلى جانب الولايات المتحدة وفرنسا، إلى معسكر الدول الداعمة صراحةً لمبادرة الحكم الذاتي، يعزز موقف المغرب داخل مجلس الأمن، الهيئة الأممية التي تضطلع بمسؤولية إيجاد حل للنزاع. هذا الدعم يُسهم في تحجيم الطروحات الانفصالية ويدفع نحو ترسيخ حل سياسي واقعي، يأخذ بعين الاعتبار سيادة المغرب واستقراره الإقليمي، ويضع حدًا للتأويلات القانونية المغلوطة التي تتبناها جبهة البوليساريو ومن خلفها الجزائر.
الرمزية القانونية والتاريخية لبريطانيا
بريطانيا، بحكم تاريخها الإمبراطوري، كانت طرفًا مركزيًا في رسم ملامح الجغرافيا السياسية في إفريقيا وشمالها على وجه الخصوص، من خلال اتفاقيات تقاسم النفوذ مع فرنسا وإسبانيا في مطلع القرن العشرين. ومن هذا المنطلق، فإن اعترافها بمغربية الصحراء يُعد بمثابة تصحيح تاريخي لموازين سياسية ساهمت قديماً في تعقيد النزاع. وهذا الاعتراف يحمل دلالات رمزية قوية تؤكد أن الزمن السياسي الدولي يتجه نحو الواقعية والحلول المستدامة.
الفرصة الاقتصادية والدبلوماسية
في سياق خروجها من الاتحاد الأوروبي، تبحث بريطانيا عن شركاء استراتيجيين مستقلين في إفريقيا لتعزيز مصالحها التجارية والطاقية. المغرب، بفضل استقراره وموقعه الجغرافي، يشكل بوابة استراتيجية نحو إفريقيا جنوب الصحراء. والدعم البريطاني لمبادرة الحكم الذاتي يأتي في وقت تشهد فيه الأقاليم الجنوبية المغربية طفرة استثمارية في مجالات الطاقات المتجددة، البنية التحتية، والنقل البحري، ما يجعل من هذا الاعتراف ركيزة لتعزيز الشراكة الثنائية وتنفيذ مشاريع استراتيجية بتمويل مشترك.
التوظيف السياسي للقرار في تحصين المكاسب
يعتمد المغرب مقاربة دبلوماسية ترتكز على مراكمة الاعترافات وتوسيع دائرة الدعم الدولي لمبادرته، انطلاقًا من منطق الشرعية الدولية والتوافق السياسي. الموقف البريطاني يُعد ورقة دبلوماسية مهمة في هذا الإطار، إذ يمكن استثماره في المنتديات الأممية والقارية لتحفيز مواقف مشابهة، أو على الأقل لخلق توازن دبلوماسي يُحاصر الخطاب الانفصالي ويضعف تأثير الأطراف المعادية.
التأثير على المواقف الإفريقية المرتبطة بجنوب إفريقيا
تتجلى الأهمية الكبرى لهذا الاعتراف البريطاني في السياق الإفريقي، خصوصًا في ضوء العلاقات التاريخية والاقتصادية التي تربط العديد من دول القارة الجنوبية ببريطانيا. جنوب إفريقيا تُعد أبرز معاقل الدعم للبوليساريو داخل القارة، وتستخدم نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي لتوجيه مواقف بلدان أخرى في منطقة المجموعة الإنمائية للجنوب الإفريقي (SADC).
لكن الاعتراف البريطاني، نظرًا لمتانة العلاقات بين لندن وهذه الدول، خصوصًا تلك التي لا تزال تحت تأثير التبعية الاقتصادية والتقنية لبريطانيا، سيُحدث أثرًا عدائيًا عكسيًا. بلدان مثل بوتسوانا، ليسوتو، مالاوي وزامبيا، تعتمد على برامج تنموية وتقنية ممولة جزئيًا أو كليًا من لندن، وقد تجد نفسها مضطرة لمراجعة مواقفها تماشيًا مع الحليف البريطاني التاريخي.
وبهذا المعطى، يُتوقع أن يكون للموقف البريطاني تأثير شمولي تدريجي على جبهة إفريقيا المناصرة لجنوب إفريقيا، ما من شأنه تفكيك الجبهة الداعمة للبوليساريو داخل الاتحاد الإفريقي، خاصة في ظل الحضور الدبلوماسي القوي والمتنامي للمغرب بالقارة.
منعطف حاسم في مسار النزاع
إن دعم بريطانيا العلني والصريح لمبادرة الحكم الذاتي لا يمثل فقط مكسبًا دبلوماسيًا إضافيًا للمغرب، بل هو مؤشر على تغير نوعي في مقاربة القوى الكبرى لهذا النزاع، الذي ظل مجمدًا لعقود. وقد يشكل هذا الاعتراف نقطة بداية لإعادة رسم خارطة التحالفات الإفريقية والدولية، خاصة إذا نجح المغرب في توظيفه كرافعة دبلوماسية لتقليص تأثير محور جنوب إفريقيا – الجزائر – البوليساريو داخل المنتظمات القارية.
إنه انتصار استراتيجي في معركة الاعترافات، وقد يُعد خطوة تمهيدية نحو حل نهائي مبني على الواقعية والشرعية الدولية.