الأسس السوسيولوجية للفساد : تحليل من خلال مثلث الفساد والتبرير الاجتماعي

 

ذ. رشيد شخمان

 

 

غالبًا ما يُنظر إلى الفساد باعتباره انحرافًا أخلاقيًا، إلا أنه في جوهره ظاهرة مركّبة ومتجذّرة في بنيات اجتماعية وتنظيمية ومؤسساتية محددة. ومن خلال منظور مثلث الفساد (الدافع، الفرصة، التبرير)، يقترح هذا المقال تحليلًا سوسيولوجيًا للفساد، مع التركيز على دور التبرير في اتخاذ القرار الفاسد. كما يستكشف كيف تُسهم السياقات السياسية والثقافية والمؤسساتية في إضفاء الشرعية على الفساد، لا سيما في المجتمعات التي تشهد توترات اجتماعية وسياسية. ويشكّل المغرب، بما يعرفه من مناخ سلطوي وفساد ممنهج، نموذجًا بارزًا لهذه الدينامية.

 

1. مثلث الفساد وانعكاساته السوسيولوجية

 

يقوم مثلث الفساد، كما صاغه كريسّي، على ثلاثة عناصر أساسية تُفسّر حدوث الفساد: الدافع، الفرصة، والتبرير. ورغم أن الدافع والفرصة يُدرسان غالبًا من منظور اقتصادي أو تنظيمي، فإن التبرير، باعتباره بُعدًا نفسيًا وأخلاقيًا، يستحق اهتمامًا خاصًا لفهم الأسباب التي تدفع الفرد إلى الانخراط في سلوك فاسد رغم قناعاته الأخلاقية.

  1. 1. الدافع: غالبًا ما ينبع من شعور بالإحباط أو الإقصاء في مواجهة نظام اجتماعي غير عادل. في السياقات التي تتسع فيها الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، تصبح الرغبة في تعويض النقص في الموارد أو الفرص حافزًا قويًا نحو الفساد.
  2. 2. الفرصة: تظهر من خلال هشاشة الأنظمة التنظيمية، وضعف الرقابة، أو غياب العقوبات الرادعة. وعندما تكون أنظمة الرقابة فضفاضة وآليات المساءلة غائبة، يبدو الفساد خيارًا عمليًا لتحقيق الأهداف.
  3. 3. التبرير: هو العامل الأكثر أهمية في فهم القرار الفاسد. فعندما يبدأ الفرد بتبرير سلوكه، يُخفّف شعوره بالذنب عبر بناء مبررات أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية، تُضفي على الفعل الفاسد طابعًا مشروعًا، خصوصًا عندما يُنظر إليه كرد فعل على أوضاع مجحفة.

 

2. تبرير الفساد: العوامل الاجتماعية والثقافية

 

يرتكز تبرير الفساد على آليات نفسية واجتماعية تسمح للفرد بتجاوز معاييره الأخلاقية دون الشعور بالذنب. وتُصاغ هذه التبريرات ضمن سياقات اجتماعية وثقافية تتفاوت من مجتمع لآخر.

2.1 ضعف ثقافة الشأن العام والمواطنة

في بعض السياقات، لا سيما في المجتمعات ما بعد الاستعمارية أو السلطوية، يؤدي غياب ثقافة الشأن العام والمواطنة إلى تطبيع الفساد. وعندما تسود هشاشة المؤسسات، وضعف الشفافية، وغياب المشاركة الديمقراطية، يُصبح الفساد استجابة “مبررة” تجاه نظم يُنظر إليها باعتبارها غير شرعية. ويُجسّد المغرب هذا الواقع من خلال سياسات قائمة على الزبونية واستغلال الموارد العمومية.

2.2 التبرير الديني والأخلاقي للفساد

في بعض الثقافات، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يُبرّر الفساد أحيانًا بخلفيات دينية أو أخلاقية. فيُنظر إليه كفعل مقاومة ضد مؤسسات يُنظر إليها بأنها فاسدة أصلًا، خصوصًا في قطاعات مثل البنوك أو ألعاب الحظ. وبهذا يصبح الفساد فعلًا “أخلاقيًا” في مواجهة نظام يعتبره الأفراد جائرًا أو غير عادل.

3. الفساد كآلية تنظيم اجتماعي وتبرير سلطوي

من المظاهر البارزة في المجتمعات السلطوية هو إدماج الفساد ضمن آليات تنظيم النظام الاجتماعي والسياسي. وعندما يصبح الفساد ممارسة ممنهجة تُشرعنها الدولة لضمان استمراريتها، يتحول إلى سلوك طبيعي ومقبول اجتماعيًا.

 

3.1 الفساد كأداة سياسية

 

أظهر سوسيولوجيون مثل عبد الرحمان المودن وبنوا دوبوي أن الفساد في الأنظمة السلطوية كالمغرب ليس مجرد سلوك فردي، بل هو جزء من منظومة مؤسساتية تُستخدم لضبط السلطة. توظف الدولة الفساد لمكافأة الولاء السياسي والحفاظ على التوازنات الاجتماعية، ما يُكرّس قناعة عامة بأن الفساد وسيلة استراتيجية للوصول إلى الموارد والفرص.

 

3.2 الفساد كآلية للبقاء النفسي والاجتماعي

 

وفقًا لتحليل مصطفى حجازي في “سيكولوجية الإنسان المقهور”، يُمكن للفساد أن يُمثّل شكلًا من أشكال المقاومة النفسية في مواجهة أنظمة قمعية. يرى الأفراد أن خرق القواعد مبرر في سياق تغوّل النظام واحتكاره للموارد. ويتفاقم هذا التوجه في المجتمعات التي تعاني من تفاوت صارخ في توزيع الثروات والفرص.

 

4. الفساد في القطاع العام كأداة لتوزيع الموارد

في البيئات التي تسودها الضبابية وضعف الرقابة، يتحول الفساد داخل القطاع العام إلى وسيلة معترف بها لتدبير الموارد. ويتجلى ذلك في ممارسات الزبونية السياسية، حيث يُنظر إلى الفساد كوسيلة “مشروعة” للحصول على امتيازات. وفي بعض الأحيان، يُسهم النظام نفسه في ترسيخ هذه الممارسات لتعزيز الولاءات واستدامة الاستقرار الظاهري.

 

 

وختاما، يُبرز التحليل السوسيولوجي للفساد، من خلال مثلثه والتبريرات الاجتماعية التي تدعمه، التفاعل المعقّد بين سلوك الأفراد والبنى الاجتماعية. فالفساد لا يمكن فهمه كحالة معزولة، بل يجب تحليله ضمن سياق سياسي واقتصادي وثقافي شامل. وفي الأنظمة السلطوية حيث يُشرعن الفساد كأداة لضبط النظام، يتحول إلى سلوك “طبيعي” يعبّر عن مقاومة خفية لبنى يُنظر إليها كقمعية أو غير شرعية.

وينبغي أن تُوجّه الأبحاث القادمة نحو تحليل الآثار النفسية والاجتماعية لشرعنة الفساد، واستكشاف استراتيجيات مؤسساتية فعّالة لمحاربته، وذلك من أجل بناء مجتمع أكثر شفافية وعدالة. كما تظل الإصلاحات الهيكلية، خاصة تلك التي تعزز ثقافة الشفافية والمسؤولية الجماعية، ضرورية لمواجهة تطبيع الفساد واستعادة الثقة في المؤسسات العامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى