الاستدانة بين ضرورة التمويل وغياب البدائل أي حصيلة للحكومة؟

بدر الزاهر الأزرق : أستاذ محاضر بجامعة الحسن الثاني بالدا رالبيضاء
مع اقتراب الولاية الحكومية الراهنة من نهايتها، يتجدد السؤال المحوري حول كيف ستُذكر هذه الحكومة في ميزان التاريخ الاقتصادي للمغرب؟ هل كحكومة استطاعت الحفاظ على التوازنات الكبرى رغم العواصف الداخلية والخارجية، أم كحكومة لجأت إلى جيب المؤسسات المالية الدولية كلما ضاقت بها الموارد؟
المديونية اليوم ليست مجرد رقم في تقارير وزارة المالية أو جدول في مشروع قانون المالية، بل هي مرآة لخيارات الدولة الاقتصادية، وانعكاس لمدى قدرتها على تعبئة الإمكانات الوطنية لمواجهة التحديات. فمنذ بداية الولاية، اتجهت الحكومة نحو مضاعفة اللجوء إلى الاقتراض الخارجي لسد العجز الموازناتي، وهو ما اعتبرته البعض دليلًا على غياب رؤية إبداعية لابتكار مصادر بديلة للتمويل، سواء عبر إصلاح النظام الجبائي بعمق، أو عبر توسيع قاعدة الاستثمار الوطني، أو تحسين مردودية المؤسسات العمومية.
وفي هذا الصدد، لا يمكن إنكار أن السياق كان استثنائيًا: أزمات متتالية، تضخم عالمي، موجات جفاف غير مسبوقة، وضغوط اجتماعية متزايدة. لكن هل يُبرر ذلك أن تصبح الاستدانة الخيار شبه الوحيد؟ هنا يطرح السؤال المؤرق: هل نحن أمام دين “استثماري” قادر على خلق الثروة وسداد نفسه، أم دين “استهلاكي” يثقل الموازنة ويؤجل المشكلات بدل حلها؟ الحكومة حاولت الدفاع عن نفسها بإعلان هدف خفض المديونية إلى 65.5% من الناتج الداخلي الخام سنة 2026، بدل 69% المسجلة في 2024. ورغم أن الرقم يبدو طموحًا، فإن التجارب السابقة علمتنا أن الأرقام المستهدفة في وثائق التخطيط المالي ليست دائمًا ضمانة للإنجاز. فخفض الدين يتطلب نموًا اقتصاديًا قويًا ومتواصلًا، ورفعًا فعليًا لمردودية الاستثمار، لا مجرد تقليص في النفقات الجارية على حساب قطاعات حيوية.
سياسة الحكومة في “التقشف على نفقات التسيير” قد تبدو منطقية على الورق، لكن السؤال الجوهري هو: هل هذا التقشف أُنجز دون المساس بجودة الخدمات العمومية؟ فالتقليص في مصاريف النقل أو الحفلات أو المؤتمرات أمر محمود، لكن الخطر يكمن في أن يمتد هذا النهج، بوعي أو بدونه، إلى الاستثمار في الكفاءات البشرية، أو إلى صيانة البنية التحتية، أو إلى البحث العلمي، وهي مجالات لا تُعطي ثمارها فورًا لكنها أساس أي نهضة اقتصادية مستدامة.
كما أن تنويع مصادر التمويل – من الشراكات مع القطاع الخاص، إلى إصدار السندات، إلى التمويلات المبتكرة – يظل أمرًا إيجابيًا من حيث المبدأ، لكن التجربة الدولية تُظهر أن هذه الصيغ قد تتحول إلى أدوات لخصخصة الأرباح وتأميم الخسائر إذا لم تُضبط بقواعد صارمة تحمي المصلحة العامة.
وجدير بالذكر في هذا السياق، أن خدمة الدين، التي بلغت حوالي 21.6 مليار درهم نهاية 2024، لا تعد رقمًا صغيرًا يمكن تجاهله، بل هي استنزاف حقيقي لجزء من احتياطات البلاد من العملة الصعبة. وهنا مكمن الخطر: إذا لم يتم التحكم في المديونية، فإن خدمة الدين قد تتحول خلال سنوات قليلة إلى أضخم بند في الموازنة، مزاحمة بذلك الإنفاق على الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية.
وعلى الصعيد المقارن، تكشف الأرقام أن المغرب ليس استثناءً في مسألة ارتفاع المديونية. ففي المنطقة المغاربية، تتجاوز المديونية في تونس 80% من الناتج الداخلي الخام، مع اعتماد أكبر على التمويلات الخارجية في ظل ضعف التصنيف الائتماني وارتفاع تكلفة الاقتراض. أما الجزائر، فرغم حفاظها على مستويات دين منخفضة نسبيًا (أقل من 60%)، فإن ذلك يرتبط أكثر بعائدات النفط والغاز التي تموّل جزءًا كبيرًا من موازنتها، ما يجعل نموذجها رهينًا بأسعار الطاقة العالمية. وفي مصر، قفزت المديونية إلى ما يفوق 90% من الناتج الداخلي، مع عبء ثقيل لخدمة الدين يتجاوز 40% من الإنفاق العام.
ومقارنةً بهذه المعطيات، يبدو أن المغرب ما يزال في منطقة “آمنة” نسبيًا من حيث المؤشرات الكمية، لكن الخطر يكمن في طبيعة الدين ومردوديته، وليس في نسبته فقط. فدولة مثل تركيا، على سبيل المثال، نجحت رغم اقتراضها الكبير في تمويل مشاريع ضخمة للبنية التحتية والصناعة المصدّرة، ما انعكس على قدراتها التنافسية، بينما دول أخرى، رغم نسب دين أقل، لم تستطع ترجمة الاقتراض إلى نمو حقيقي، وظلت أسيرة مديونية تلتهم مواردها سنة بعد أخرى.
في النهاية، المديونية ليست عيبًا في ذاتها؛ فحتى الدول المتقدمة تقترض. لكن الفارق الجوهري يكمن في طبيعة الدين ووجهة استغلاله. فإذا كان موجّهًا لمشاريع إنتاجية ذات مردودية واضحة، ويخضع لمعايير الشفافية والنجاعة، فإنه يصبح رافعة للنمو. أما إذا كان مجرد وسيلة لتأجيل الأزمات وترحيل المشاكل إلى الحكومات المقبلة، فإنه يتحول إلى قيد اقتصادي وسياسي يحد من هامش القرار الوطني.
وختاما، قد يُحسب للحكومة إذا نجحت في خفض الدين إلى المستوى المعلن، لكن الإنجاز الحقيقي سيكون حين نرى أن كل درهم اقترضناه قد عاد إلينا أضعافًا في شكل وظائف جديدة، وبنيات تحتية ذات مردودية، واقتصاد أكثر قدرة على الصمود في وجه الأزمات. وإلا فإننا سنبقى ندور في الحلقة المفرغة نفسها: دين جديد لسداد دين قديم