البال في زمن السوشيال ميديا: موضة المقاومة أم ثقافة الانتحار الطبقي؟( ملف)

نجوى القاسمي
حتى وقت قريب، كان الاعتراف بشراء الملابس المستعملة من أسواق “لبال” يعد أمرا محرجا، خاصة لدى الشباب الذين ارتبطت لديهم هذه القطع بصورة الفقر أو الحاجة.
غير أن المشهد تغير كليا مع صعود الفضاء الرقمي وتحوّل أنماط الاستهلاك تحت ضغط “التراند”، ليصبح “لبال” اليوم موضة رقمية يتباهى بها المؤثرون على منصّات التواصل الاجتماعي، وينخرط فيها آلاف الشباب كمستهلكين ومسوقين غير رسميين لهذا النوع من الأزياء.
في ظل غياب أي آليات مراقبة فعلية لما يروج له عبر الإنترنت، باتت منصات مثل إنستغرام وتيك توك ساحة مفتوحة لتسويق “لبال”، حيث يعرض شبّان وشابات ما يقتنونه من ملابس مستعملة على أنها قطع فريدة، أصلية، وعصرية.
هذا التحول الثقافي في النظرة إلى الملابس المستعملة لم يأت نتيجة وعي استهلاكي جماعي، بل نتيجة ديناميكية رقمية تقودها المؤثرات البصرية ورغبة الجمهور في التميّز بتكلفة أقل.
إطلاق منصات رقمية متخصصة في سنة 2022، تم إطلاق منصة “Used.ma” المتخصصة في بيع وشراء الملابس المستعملة، بهدف تعزيز الموضة المستدامة في المغرب وأفريقيا. وقد حازت المنصة على جوائز تقديرية، مما يدل على نجاحها وتأثيرها في السوق
و بلغت إيرادات سوق التجارة الإلكترونية للأزياء في المغرب حوالي 133 مليون دولار أمريكي في عام 2024، مع توقعات بنمو سنوي يتراوح بين 0-5% في السنوات القادم
لكن هذه الظاهرة الرقمية تطرح تساؤلات حقيقية حول تأثير هذه الحملة “العضوية” التي يقودها المستخدمون أنفسهم، بعيدا عن أي تنظيم، في ظل تحول الاستهلاك إلى فعل جماعي إلكتروني.
وبحسب المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن أقل من 1% من المواد المستخدمة في صناعة الملابس يعاد تدويره لصناعة ملابس جديدة، ما يعكس ضرورة التحول نحو الاستدامة”.
في السياق المغربي، يسهم استيراد الملابس المستعملة، خاصة من أوروبا، الولايات المتحدة، تركيا، والصين، في تلبية الطلب المحلي المتزايد، حيث تباع هذه الملابس بأسعار تنافسية في الأسواق الشعبية، ما يجعلها خيارا مفضلا لفئات واسعة، خصوصاً في ظل محدودية الإنتاج المحلي المخصص للاستهلاك الداخلي.
تظهر هذه الديناميكية دور المغرب في الاقتصادي الدائري، حيث تتم إعادة تدوير نحو 77% من النفايات النسيجية البالغة 83،200 طن سنويا، محلياً، أو تصديرها إلى الأسواق الخارجية”.
هذا القطاع يعزز من جهود الاستدامة، حيث تعدّ الملابس المستعملة خيارا يخفف من استهلاك الموارد الجديدة ويقلّل من النفايات.
فهل يعكس هذا الانتقال وعيا بيئيا حقيقيا، أم أنه مجرد “تراند” جديد سرعان ما سيستبدل بموضة أخرى؟ وهل يفتح غياب الرقابة الباب أمام استغلال هذا الاتجاه تجاريا، على حساب المستهلكين وبدون أي ضمانات للشفافية والجودة؟
من “إنستغرام” إلى السوق: كيف يسوق المؤثرون للملابس المستعملة؟
في هذا السياق، يبرز دور المؤثرين، لا كمجرد ناقلين لتجاربهم، بل كفاعلين في تشكيل اتجاهات السوق وتطبيع سلوك استهلاكي جديد. كما تبرز مسؤولية المجتمع الرقمي في تنظيم هذا التحول، وإعادة التفكير في العلاقة بين الموضة، القيم، والاستدامة في زمن “التراند” المتسارع.
يعد محمد منصوري (20 سنة)، مؤثرا رقميا من الرباط، نموذجا حيا لتحول “لبال” إلى ظاهرة رقمية جذابة بين الشباب. فبعد أن بدأ مؤخراً في مشاركة محتوى حول الملابس المستعملة عبر حسابه على إنستغرام، حاز تفاعلا واسعا من متابعيه، خاصة من الفئة العمرية الشابة التي تجد في تجاربه مصدر إلهام وجرأة في كسر الصورة النمطية عن هذا النوع من الأزياء.
يقول محمد:
أشتري من أسواق الملابس المستعملة لأنها توفر أشياء لا يمكن أن تجدها في أسواق الملابس الجديدة، سواء من حيث الشكل أو الجودة أو حتى السعر. الجميع يرغب في قطع أصلية من ماركات عالمية، لكن بدلا من أن نشتريها بأسعار خيالية، قد نجدها مكوّمة في سوق البال بثمن زهيد.”
بهذا الخطاب المباشر ، يقدم محمد نموذجا جديدا للتسويق غير التقليدي، حيث لا يحتاج إلى حملة مدفوعة أو علامة تجارية ليروج لمفهوم الاستهلاك البديل. بل هو، كغيره من المؤثرين، بات يلعب دور “السفير الرقمي” لصالح الموضة المستعملة، يقنع ويعيد تشكيل الأذواق من خلف شاشة هاتفه، في ظل فراغ تنظيمي واضح يترك الإنترنت فضاء مفتوحا للتأثير السريع، دون رقابة أو تأطير.
الصفحات الرسمية تدخل على الخط: “لبال” يجد مكانه على استغرام
لم يعد الترويج للملابس المستعملة حكرا على المؤثرين الأفراد، بل امتد ليشمل صفحات رسمية خصصت محتواها بالكامل لعرض قطع “لبال” المصنفة والمنظفة، مرفقة بصور احترافية وتعليقات تحفيزية من قبيل: “قطع أصلية بأثمنة لا تقاوم”
هذه الصفحات، التي يتابع بعضها عشرات الآلاف من المستخدمين، لا تكتفي بعرض الملابس، بل تعتمد أساليب تسويقية رقمية ذكية، مثل البث المباشر لعرض المنتجات، أو نظام الحجز المسبق والدفع عند الاستلام، ما يضفي طابعا مهنيا على تجارة لطالما اعتبرت “غير رسمية”.
وهكذا، ينتقل “لبال” من الأرصفة إلى العالم الافتراضي، حيث يعاد تقديمه كخيار عصري وذكي، مدعوم بلغة رقمية بصرية تحاكي منصات التسوق العالمية، وتستهدف فئة الشباب الباحثين عن التميز بتكلفة معقولة.
المنتوج الأجنبي في مواجهة المحلي
من منظور سوسيولوجي، اعتبر عنبي أن ثقافة استهلاك الملابس المستعملة تعكس رغبة المغاربة في الحصول على منتوج أجنبي يرونه أكثر جودة من المنتج المحلي.
وأضاف أن هذا الميل ليس حصريا للمغرب، بل إن معظم المجتمعات، حتى المتقدمة منها، تتوفر على أسواق مماثلة، مشيرا إلى أن دولا ككندا تقدم هذه الملابس في فضاءات مرتبة وراقية.
أكد الباحث أن إقبال المغاربة على “لبال” لا يعني بالضرورة الفقر، بل يُعتبر أحيانا شكلا من المقاومة الاجتماعية لثقافة الإفراط في الاستهلاك. حيث يرى كثيرون أن شراء قطعة مستعملة ذات جودة عالية وسعر منخفض هو عودة إلى البساطة واستهلاك عاقل.
لفت عنبي إلى أن البعض يربط اقتناء الملابس المستعملة من ماركات عالمية بـالانتماء الطبقي، حيث يتوهم المستهلك أنه يشارك النخبة في رموزها الاستهلاكية، حتى وإن لم يكن ينتمي فعلا إليها.
وسم هذا السلوك “الانتحار الطبقي”، موضحا أن المغربي غالبا ما يقوم بـتحايل استهلاكي، يبحث من خلاله عن ماركات معينة بثمن مناسب في جولة مطولة، توهما منه أن امتلاكها سيمنحه مكانة اجتماعية.
أشار عنبي إلى أن ملابس “الجوطية” في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كانت ترتبط بـالوصم الاجتماعي، غير أن العولمة والرقمنة غيّرت هذه النظرة، حيث أصبح استهلاك الملابس المستعملة موضةً يتبناها عدد متزايد من الفئات المتوسطة والراقية، بفضل وسائل الإعلام والترويج الرقمي على المنصات الاجتماعية.
أوضح الأستاذ عنبي أن ثقافة “لبال” تسهم بشكل مباشر في الحد من استنزاف الموارد الطبيعية مثل القطن والصوف والنسيج، إذ أن عدم إعادة تدوير الملابس القديمة يعني التخلص منها في النفايات، مما يؤدي إلى تلوث التربة والمياه، ويهدد الكائنات العضوية في البيئة.
من ناحية اجتماعية، أشار إلى أن استهلاك الملابس المستعملة يعزز العدالة في فرص التملك، إذ تمكن الجميع من ارتداء ملابس جيدة بسعر معقول، مما يرسّخ قيم التضامن ويحد من مظاهر التفاوت الصارخ.
أخطار صحية محتملة: الملابس المستعملة تحت المجهر
وبحسب تقرير لموقع Medical Express، فإن الملابس المستعملة قد تُشكّل خطرا صحيا إذا لم تنظّف بشكل جيد، إذ قد تحتفظ ببكتيريا Bacillus subtilis، التي قد تسبب التهابات جلدية وحتى التهابات في الدم في بعض الحالات.
وأوضحت الدكتورة نسرين السداتي، طبيبة مختصة في الجلد في تصريح خصت به موقع “إعلام تيفي”،
أن الطفيليات المجهرية التي قد تسكن الملابس المستعملة قد تعيش حتى سبع سنوات، خصوصاً إذا لم تُغسل بدرجة حرارة لا تزيد عن 60 درجة مئوية، وهي درجة يصعب بلوغها في الغسل المنزلي العادي.
وأضافت أن هذه الطفيليات يمكن أن تسبب أمراضا مثل الجرب، والتونيا، والقمل، بل وقد تمتد العدوى إلى الأظافر، مشيرة إلى أن علاجها قد يتطلب دواء يؤثر على الكبد، مما يُحتّم مراقبة طبية شهرية أثناء فترة العلاج التي قد تمتد إلى ستة أشهر.
أكدت الدكتورة السداتي أن بعض الفئات خاصة من لديهم حساسية في الجلد أو الأطفال ينبغي أن يتجنبوا ارتداء الملابس المستعملة كليا.
وشددت على أن الوقاية خير من العلاج، فإن استدعت الضرورة استعمال هذه الملابس، فيجب تنظيفها بطريقة صحيحة، عبر غسلها جيدا ثم تعريضها لحرارة مرتفعة لضمان القضاء على أي طفيليات.
إجمالا، يعكس استهلاك “لبال” في المغرب ظاهرة مركبة تتقاطع فيها الرمزية الثقافية، والتحايل الاستهلاكي الطبقي، والمسؤولية البيئية، والوعي الصحي. وبين من يراها موضة واعية، وآخرين يحذرون من مخاطرها، تبقى تجارة الملابس المستعملة واحدة من أبرز مظاهر التحوّل في أنماط الاستهلاك المغربي المعاصر.
تحذيرات من مخاطر صحية واقتصادية بسبب تجارة الملابس المستعملة
وحذر علي شتور، رئيس الجمعية المغربية للدفاع عن حقوق المستهلك، في تصريح لموقع إعلام تيفي، من تداعيات استيراد الملابس المستعملة أو ما يعرف بـ”البال”، والتي باتت تدخل إلى السوق المغربية بكميات ضخمة، دون الخضوع لأي مراقبة صحية حقيقية.
وأكد أن هذا النشاط الذي كان محدودا في البداية وفي إطار التعاون، تحول إلى تجارة مربحة تدر أرباحا طائلة لبعض المهنيين، بينما تعرض صحة المستهلك المغربي للخطر، وتُهدد الصناعة الوطنية.
وأشار شتور إلى أن هذه الملابس، وخاصة الداخلية منها أو القبعات المستعملة، قد تسبب أمراضا جلدية خطيرة والتهابات بكتيرية معقدة، لا سيما إن كانت غير معقمة أو ملوثة، مما يتطلب علاجات طويلة ومكلفة.
شتور : القانون رقم 31.08 المتعلق بحماية المستهلك، يخول للأفراد المتضررين حق رفع دعاوى قضائية للمطالبة بالتعويض عن الأضرار الصحية أو الجسدية الناتجة عن استعمال هذه المنتجات.
وفي هذا السياق، دقت الجمعية المغربية للدفاع عن حقوق المستهلك، المنضوية تحت لواء الجامعة المغربية لحقوق المستهلك، ناقوس الخطر، مطالبة بضرورة وضع حد لهذه التجارة العشوائية التي غزت الأسواق المغربية.
وأكد شتور أن استمرار دخول هذه المنتجات دون ضوابط لا يهدد فقط السلامة الصحية للمواطنين، بل يؤثر سلبا كذلك على قطاع النسيج والملابس المحلي، ويقوض جهود تطوير الصناعة الوطنية.
وختم تصريحه قائلا: “كفانا من استيراد نفايات أوروبا من الملابس المستعملة، بعد أن يتخلص منها أصحابها. آن الأوان لإعادة النظر في هذه الممارسات وحماية صحة المواطن والاقتصاد الوطني على حد سواء.”
في ظل التحولات الرقمية المتسارعة وتغير أنماط الاستهلاك، لم تعد الملابس المستعملة تعتبر فقط خيارا اقتصاديا للفئات ذات الدخل المحدود، بل أصبحت جزءا من ثقافة استهلاكية جديدة تتقاطع فيها الوعي البيئي، والرغبة في التميز، والنزوع إلى التباهي بعلامات تجارية عالمية بأسعار معقولة.