التقشف على الشعب.. وملياران للفخامة والرفاهية بتوقيع رئيس البرلمان

اعلام تيفي

إعلام تيفي _ الرباط

في قلب شارع محمد الخامس بالرباط، حيث يقع مقر مجلس النواب، تتعالى أصداء الجلسات البرلمانية، وتصاغ القوانين، وتناقش الميزانيات، لكن خلف جدرانه، يدور نقاش آخر لا يظهر على شاشة البث المباشر: كيف تُدبر أموال المؤسسة التشريعية؟ وهل تنسجم النفقات مع مبادئ الحكامة الرشيدة؟ في الوقت الذي يواجه فيه المغرب تحديات اجتماعية واقتصادية معقدة، يُطرح التساؤل حول مدى التزام مجلس النواب كنموذج مؤسساتي بضبط النفقات وترشيد الميزانية بما يعكس الأولويات؟
رشيد الطالبي العلمي، رئيس مجلس النواب، يطلق صفقة جديدة بقيمة 2.4 مليون درهم، أيٌ ما يعادل 240 مليون سنتيم، تتعلق بكراء السيارات لنقل البرلمانيين وضيوف المجلس. الفخامة كانت حاضرة في هذه الصفقة، حيث تتضمن استئجار 80 يوما من حافلات صغيرة بسعة 17 مقعدا من نوع سياحي، و350 يوما من سيارات فاخرة من نوع فولكسفاغن باسات أو سكودا سوبيرب لاستقبال الشخصيات المهممة.


ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل شملت الصفقة أيضا 300 يوم من سيارات مرسيدس فيانو بسعة ستة مقاعد، و120 يوما من سيارات مرسيدس الفئة E، و30 يوما من سيارات مرسيدس الفئة S المخصصة لاستقبال الشخصيات الرفيعة المستوى.
وفي بند لا يخلو من السخاء، تم تخصيص 100,000 كيلومتر من الكراء الإضافي لجميع أنواع السيارات عند تجاوز 300 كيلومتر يوميا، إضافة إلى 8,000 كيلومتر لكراء حافلات 50 مقعدا للرحلات خارج الرباط.
وتؤكد الوثائق التي يتوفر عليها موقع “إعلام تيفي” أن الصفقة تتضمن جميع المصاريف المتعلقة بالتشغيل، بما في ذلك الوقود، الصيانة، رسوم الطرق السيارة، وأجور السائقين، مع إلزامية استبدال أي سيارة معطلة بأخرى مماثلة خلال ساعتين كحد أقصى.
كما تفرض الصفقة معايير صارمة على السائقين، حيث يُشترط أن يكونوا مؤهلين، ذوي خبرة لا تقل عن ثلاث سنوات، حسن السلوك، ويرتدون زيا رسميا يتوافق مع متطلبات مجلس النواب.
وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون كل سائق مجهزا بهاتف محمول لضمان التواصل الفوري عند الحاجة.
وتشترط الصفقة أن تكون جميع السيارات حديثة الصنع (لا تتجاوز خمس سنوات من الخدمة)، ومجهزة بجميع متطلبات السلامة والراحة، بما في ذلك وسائل مكافحة الحرائق، أنظمة التهوية، والمقاعد المريحة. كما يُلزم المتعهد الفائز بتوفير تأمين شامل يغطي جميع المخاطر المتعلقة بالمركبات والركاب. كل هذه التفاصيل، وغيرها، ستُحسم يوم 29 أبريل 2025، تاريخ فتح الأظرفة، ليُعرف من سيكون المستفيد من هذه الصفقة المغرية.

ولكن القصة لا تتوقف عند السيارات الفاخرة، فداخل أسوار البرلمان، كانت هناك صفقة أخرى تُطبخ على نار هادئة. منذ شهور، يشهد مقر مجلس النواب أشغال ترميم واسعة، تمتد إلى واجهته الخارجية، حيث تُرمم الفسيفساء، وتُصلح الزخارف الجبسية، وتُعاد طلاء الجدران، في مشروع ضخم بلغت قيمته 16,698,605.28 درهم، أي ما يقارب 1.7 مليار سنتيم.
ووفقاً لوثائق حصل عليها موقع “إعلام تيفي”، فقد وقع رشيد الطالبي العلمي على هذه الصفقة في إطار طلب العروض الوطني رقم 08/2024، الذي انتهى بإسناد المشروع رسميا إلى شركة “أندلس ديزاين SARL” يوم 10 يونيو 2024. هذه الشركة، التي يقع مقرها في مدينة فاس، كانت المتنافس الوحيد على الصفقة دون أي عروض منافسة أخرى، وهو ما أثار تساؤلات حول مدى انفتاح هذه العملية على مبدأ التنافسية الذي يُفترض أن يميز الصفقات العمومية.
وتتوزع أعمال الترميم على عدة جوانب تقنية وفنية، تشمل ترميم الفسيفساء التقليدية، إصلاح الزخارف الجبسية، إعادة طلاء الجدران، وصيانة العناصر المعدنية والخشبية التي تشكل جزءًا من الهوية المعمارية للمبنى. التفاصيل التقنية للأشغال تضمنت تنظيفًا دقيقًا للفسيفساء المزخرفة التي تغطي أجزاء من الواجهة، مع إعادة تثبيت الأجزاء المتضررة واستبدال القطع المفقودة وفقًا للنمط الهندسي الأصلي، بالإضافة إلى إصلاح الزخارف الجبسية، التي سيتم إعادة نحتها وصقلها لاستعادة مظهرها الأصلي، باستخدام مواد مقاومة للتآكل وعوامل التعرية.
إلى جانب ذلك، تشمل العملية إعادة طلاء الجدران الخارجية بألوانها الأصلية، باستخدام دهانات عالية الجودة قادرة على تحمل التغيرات المناخية. كما ستتم صيانة العناصر المعدنية والنحاسية، مثل النوافذ والأبواب المزخرفة، من خلال تنظيفها وصيانتها وإعادة طلائها لحمايتها من التآكل. وستشمل الأشغال أيضا إعادة تأهيل الألواح الخشبية المزخرفة المستخدمة في أجزاء من الواجهة، مع إخضاعها لعملية صيانة دقيقة لضمان الحفاظ على جودتها الأصلية.
وتستهدف الأشغال عدة مواقع داخل مقر البرلمان، أبرزها الواجهة الرئيسية المطلة على شارع محمد الخامس، والتي تضم المدخل الرئيسي للمبنى، حيث ستتم إعادة ترميم الأعمدة والأسقف الجبسية، وتحسين الأرضيات المحيطة بها.
كما تشمل العملية الواجهات الجانبية المطلة على الأزقة المجاورة، التي ستخضع لأعمال تنظيف وإصلاح موسعة نظرا لتعرضها لعوامل التعرية، بالإضافة إلى الساحة الأمامية للمجلس، التي سيتم إعادة تهيئتها جزئيًا وفقا لمقتضيات طلب العروض.
فعندما يُصبح البرلمان، الذي يُفترض أن يكون حصنا لحماية المال العام، ساحة لإنفاق ميزانيات ضخمة على نفقات غير أساسية، فإن ذلك لا يطرح فقط إشكالات تدبيرية، بل يضع المؤسسة التشريعية أمام اختبار حقيقي لمصداقيتها ولقدرتها على عكس انتظارات المواطنين في قراراتها المالية والتدبيرية، حيث أن مجلس النواب ليس فقط مقر لعقد الجلسات وصياغة القوانين، بل هو فضاء يُفترض أن يجسد قيم الرقابة على الإنفاق العمومي، لا أن يتحول إلى جهة تحتاج نفسها إلى رقابة أكثر صرامة.
وبينما تزداد الحاجة إلى ضبط المصاريف وترشيد الموارد، يتبدى أحيانا أن الحسابات السياسية والمصالح الآنية تطغى على منطق الأولويات الملحة، مما يُفضي إلى إعادة إنتاج نمط إنفاق لا ينسجم مع واقع التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
إن السياسة في جوهرها فن ترتيب الأولويات وفق ما يخدم الصالح العام لا وفق ما يخدم أجندات مرحلية أو اعتبارات ظرفية، وعندما يصبح الإنفاق داخل المؤسسة التشريعية انعكاسا لحسابات خاصة بدل أن يكون تجسيدا لمسؤولية مؤسساتية، فإن ذلك لا يمس فقط نزاهة التدبير المالي، بل يضرب في العمق العلاقة بين المواطن وهذه المؤسسة التي يفترض أنها تمثله وتدافع عن مصالحه، حيث أن الشفافية ليست شعارا يُرفع في التصريحات الرسمية، بل ممارسة يومية يجب أن تظهر في كل درهم يُصرف وكل صفقة تُبرم.
وبينما تسجل الميزانيات العمومية أرقاما متزايدة، يبقى الرهان الحقيقي ليس في حجم الموارد المتاحة، بل في مدى نجاعة استخدامها وفق منطق يخدم الوطن والمواطن على حد سواء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى