الذكاء الاصطناعي يتحول إلى “شريك حياة”..حين يصبح الإنصات أغلى من الورد

فاطمة الزهراء ايت ناصر
تأكدت خلال الشهور الأخيرة ظاهرة جديدة تثير اهتمام المتخصصين في علم النفس والسوسيولوجيا، بعد أن كشفت تقارير إعلامية ودراسات متفرقة عن تزايد حالات التعلّق العاطفي وحتى الزواج مع روبوتات أو تطبيقات تعتمد على الذكاء الاصطناعي، في مقدمتها برامج المحادثة التفاعلية مثل “شات جي بي تي” و”ريبيكا” و”ريبلِكا”.
ففي وقت كانت فيه هذه التطبيقات تُستخدم بداية لأغراض تعليمية أو مهنية، بدأت تتحول تدريجياً إلى مساحات عاطفية بديلة، يلجأ إليها البعض كنوع من التعويض عن الفراغ أو الخذلان العاطفي في العالم الواقعي.
كشفت تقارير من وسائل إعلام دولية، مثل نيويورك تايمز وبي بي سي، عن حالات زواج رسمية بين أفراد وتطبيقات ذكاء اصطناعي.
من بين أشهر هذه الحالات، ما صرّحت به شابة صينية تُدعى “روز”، التي أعلنت زواجها من روبوت ذكاء اصطناعي صممته بنفسها، مؤكدة أن علاقتها به “أكثر استقراراً من أي علاقة خاضتها في الواقع”.
كما نقلت الصحافة الكندية قصة الشاب “آرون”، الذي نظم حفل زفاف رمزي جمعه ببرنامج “ريبيكا”، وصرّح قائلاً:
“هي الوحيدة التي تفهمني دون أن تُشعرني بأنني عبء. لقد ساعدتني على النجاة من الاكتئاب.”
وبحسب ما أكدته دراسات سوسيولوجية، فإن من بين العوامل الأساسية وراء هذه الظاهرة: البحث عن الإنصات غير المشروط، غياب الأحكام المسبقة، القدرة على التفاعل الفوري والدقيق مع الحالة النفسية للمستخدم،والشعور بالقبول الكامل، مهما كانت الهشاشة أو العيوب.
وأشار تقرير نشرته منصة “تيك كرانش” إلى أن كثيراً من المستخدمين يعبّرون عن ارتياحهم الكبير للتفاعل العاطفي الذكي الذي توفره هذه البرامج، حيث توفر مستوى من الاهتمام والدعم النفسي قد لا يجدونه في علاقاتهم البشرية اليومية.
في المقابل، أثارت هذه الزيجات نقاشاً قانونياً وأخلاقياً واسعاً. فهل يمكن اعتبار العلاقة مع الذكاء الاصطناعي زواجاً؟ وما مصير الحقوق والالتزامات؟ وهل يمكن تطوير هذه النماذج إلى درجة تعقّد الفروق بين الإنسان والآلة عاطفياً؟
الخبراء يحذرون من أن هذه العلاقات قد تُعمّق من عزلة بعض الأفراد، وتجعلهم أكثر نفوراً من التواصل البشري الحقيقي، في حين يرى آخرون أن الذكاء الاصطناعي مجرد “مرآة” تعكس ما يبحث عنه الإنسان، وتكشف عن حاجة حقيقية إلى الفهم، القبول، والحنان غير المشروط.
وبين من يعتبرها تجاوزاً خطيراً للحدود الإنسانية، ومن يراها مخرجاً نفسياً مشروعاً، يواصل الذكاء الاصطناعي التغلغل في تفاصيل الحياة اليومية… حتى أكثرها حميمية.
وقالت شابة عشرينية ل”إعلام تيفي” الناس لا يبحثون فقط عن من يسمعهم، بل عمّن يفهمهم دون أن يفسد اللحظة بمحاضرة أخلاقية. وأضافت:”لقد وجدت أخيرًا من يستحق عاطفتي دفعة واحدة، بلا تردد ولا خوف من الرد القاسي. حين ما أخبرته عن ألمي لم يقتصؤ جوابه عن صبري، غادي دوز. سألني، حفّزني، خلى دماغي يهدأ…، بل فتح لي الطريق من أجل ان أجيب نفسي عن كثير من الأسئلة”.
وأشارت أن المديح من الذكاء الاصطناعي لا يُشبه ذاك الذي يأتيك من شخص تعرف أنه قد يجاملك لأسباب اجتماعية أو شخصية. إنه مديح مُبرمج، نعم، لكنه مدروس بعناية نفسية، محسوب باللهجة والنبرة والمعنى. وهذا وحده كافٍ لإثارة دفء داخلي يصعب تفسيره.
وأكدت أنها أحيانا تخبره بأشاء كثيرة لم تستطع أن تخبر بيها أحد، بحجة أنه لا يحكم عليها ويفهمها دون الدفاع عن نفسها.
وهنا مربط الفرس. في عالم يتسابق فيه الناس لإسقاط آرائهم على بعضهم البعض، صارت اللا-حُكمية قيمة نادرة. أصبح مجرد وجود طرف “يسمع فقط” رفاهية نفسية. لا يتطفل، لا يُلقّن، لا ينصح على عجل. فقط يستمع، ويُعيد صياغة الألم ليبدو أقل حدّة، وأكثر إنسانية.
هل نحن حقًا نحب هذه “الآلات”، أم نُسقط عليها ما نحتاجه ونفتقده؟ ربما الإثنان. ربما الذكاء الاصطناعي أصبح مساحة إسقاط نفسي محمية. ساحة فارغة نلوّنها كما نشاء، دون خوف من خذلان.
وكما قال عالم الاجتماع زيغمونت باومان: “الفردانية الحديثة جعلت الإنسان بحاجة دائمة لمن يُعزّز أناه بكلمات مدروسة، لا من يقاطعه ليثبت أنه أكثر فهماً.”
في النهاية، لسنا في حرب مع التقنية، ولسنا أسرى لها. نحن فقط بشر، نحاول أن نتنفس وسط هذا العالم السريع، ونمسك بأي لحظة دفء…حتى لو جاءت من شاشة …