الصحافة تختنق بقبضة المال والنفوذ

 

إعلام تيفي-الرباط

حين يتمدد المال ليفرض سطوته على الإعلام والصحافة، ويتحول النفوذ الاقتصادي إلى وسيلة لإعادة رسم حدود المسموح والممنوع، يفقد المشهد الإعلامي استقلاليته، ويتحول إلى أداة تُدار بمنطق المصالح لا بمنطق الحقيقة.

في هذه البيئة، لا يُترك مجال للرأي الحر، بل يُعاد تشكيل الخطاب وفق مقاييس من يملك مفاتيح السوق، فتُشترى الولاءات، وتُكمم الأفواه بوسائل ناعمة، حيث يصبح الصمت خيارا مفروضا، والكلمة المستقلة ترفا لا يمكن تحمله.

وعندما تلتقي السلطة والمال في يد واحدة، لا يعود الإعلام سلطة رابعة، بل مجرد صدى يُردد ما يُراد له أن يُقال، فيما الحقيقة تُحاصر، وتُمنع عن مجتمع يُراد له أن يسمع صوتا واحدا فقط.

في مثل هذا المناخ، لم يعد الصمت خيارا شخصيا، بل صار شرطا وجوديا للبقاء. ولم تعد المواجهة تأخذ شكلها التقليدي، فلا حاجة اليوم إلى إغلاق الصحف أو حظر المنابر، حين يمكن ببساطة تجفيف مواردها، إحكام الخناق عليها بقرارات تبدو إدارية، لكنها في جوهرها عملية تصفية بطيئة لكل صوت يرفض الاصطفاف. والمؤسسات التي تأبى الخضوع لا تُسحق بقرارات صارمة، بل تُدفع إلى الهامش، تُترك للنزيف البطيء، حتى تستسلم أو تختفي من تلقاء نفسها.

وحين يُصبح المال هو القلم، والخط التحريري يُرسم في مكاتب رجال الأعمال بدل أن يُصاغ في قاعات التحرير، تتحول الصحافة إلى مجرد صدى لمن يدفع أكثر.

تُباع العناوين، ويُشترى الرأي، وتُصبح الأقلام مجرد أدوات لتبييض القرارات وإعادة تدوير الخطابات الرسمية بعبارات منمقة. في مثل هذه الظروف، تُصبح الاستقلالية تهمة، والجرأة خطرا، والمهنية عبئا لا يستطيع تحمله إلا من قرر المواجهة، ولو كان ثمنها العزل، والتضييق، والتهديد بقطع الأرزاق.

غير أن التاريخ لم يُسجل يوما أن إعلاما صُنع بمداد المال استطاع أن يُخرس صوت الحقيقة إلى الأبد. ولئن تمكنت بعض القوى من إحكام قبضتها على الصحافة، من شراء الولاءات، وتوجيه العناوين، وإقصاء كل من يرفض الانخراط في جوقة التهليل، فإن الحقيقة تظل عصية على المصادرة، تتسرب عبر هوامش لا تخضع للرقابة، وتجد دائما طريقها إلى الأذهان، مهما حاولت أيادي رجال المال حجبها خلف ستائر المصالح.

قد يعتقد البعض أن بإمكانه التحكم في كل شيء، شراء كل شيء، ترويض كل الأصوات، وتدجين كل المنابر، لكنه ينسى أن الحقيقة ليست ملكا لأحد، وأن الصحافة، مهما تراجع دورها في لحظة، لا تموت، بل تعود دائما، أكثر صلابة، وأشد بأست، لأن المجتمع الذي يعتاد على الصمت، قد ينفجر يوما بصوت لا يمكن إخضاعه أو إسكاته.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى