العرض الصحي في المدن المتوسطة.. ثغرة منسية في استراتيجية الاستثمار المغربي

 

بشرى عطوشي

رغم ما تحققه المملكة المغربية من تقدم ملحوظ في استقطاب الاستثمارات وتطوير بنيتها التحتية في قطاعات محورية كالصناعة والطاقات المتجددة، إلا أن قطاعًا استراتيجيًا كالصحة لا يزال يعاني من تهميش بنيوي، خاصة في المدن المتوسطة. واقع يطرح أكثر من سؤال حول أولويات برنامج الاستثمار الوطني، ويفضح ثغرة تنموية خطيرة تهدد حق المواطن في العلاج وتضعف ركائز العدالة المجالية.

الصحة ليست أولوية استثمارية… للأسف

بينما تحظى قطاعات العقار، السياحة والصناعة بحوافز قوية، وتُفتح لها أبواب العقار العمومي والتمويل البنكي بشروط ميسرة، يبقى الاستثمار الصحي حبيس الرؤية التقليدية التي تراه مجالًا عالي الكلفة وبطيء العائد. هذا الفهم التجاري الضيق يغفل أن الصحة ليست سلعة، بل أساس الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وخاصة في المدن التي تعاني أصلًا من خصاص حاد في البنيات الأساسية.

المدن المتوسطة: خارطة مغيبة في معادلة العرض الصحي

مدن مثل تازة، خريبكة، تاونات، صفرو، بن سليمان، وغيرها، تعاني من فراغ صحي حقيقي. مواطنو هذه المناطق يُجبرون على قطع مئات الكيلومترات للعلاج في مدن كبرى، في مشهد لا يعكس فقط غياب الخدمات، بل يُجسد “هجرة صحية داخلية” تهدد التوازن الديمغرافي وتثقل كاهل الأسر.

الغريب أن هذه المدن تُستثنى من برامج دعم الاستثمار الصحي، سواء من خلال توفير العقار العمومي لبناء مصحات، أو تقديم إعفاءات ضريبية لتحفيز الخواص. وكأن حق المواطن في العلاج مشروط بكثافة سكانية معينة أو بوجود “جاذبية مالية” تستحق المغامرة الاستثمارية.

صحة المواطن ليست رفاهًا.. بل استثمار ذو مردودية اجتماعية واقتصادية

المفارقة أن تقوية العرض الصحي ليس عبئًا على الدولة، بل مكسبًا متعدد الأبعاد. فالاستثمار في الصحة يخلق مناصب شغل، يُنشط قطاعات موازية (صيدلة، تجهيزات، تأمينات)، ويُوفر على الدولة ملايين الدراهم التي تُنفق في تحويل المرضى إلى مراكز استشفائية كبرى.

ثم إن تعزيز العرض الصحي في المدن المتوسطة يُحفز الاستقرار السكاني ويحد من النزوح نحو الحواضر الكبرى، وهو ما يعزز التوازن المجالي ويُخفف الضغط على الخدمات في المدن الكبرى.

استراتيجية الاستثمار تحتاج إلى تصحيح البوصلة

إذا كانت الدولة تراهن اليوم على الجهوية المتقدمة كأداة للعدالة المجالية، فإن الصحة يجب أن تكون على رأس الأولويات الاستثمارية في الجهات المهمشة. الأمر لا يتعلق فقط ببناء مستشفيات، بل بإحداث بيئة متكاملة تشجع القطاع الخاص على الاستثمار: تمويل بنكي ميسر، وعاء عقاري متاح، دعم في التشغيل والتكوين، وتسهيلات ضريبية حقيقية.

كما أن الدولة مطالبة بتوجيه جزء من الصناديق الاستثمارية (كصندوق محمد السادس للاستثمار) نحو دعم المشاريع الصحية في المدن المتوسطة، حتى تتحول من “فراغ طبي” إلى “قطب جذب تنموي”.

 لا تنمية بلا صحة

الحديث عن التنمية الشاملة والعدالة المجالية يبقى شعارًا فارغًا ما لم يكن للمواطن المغربي، في كل مناطق المملكة، الحق الفعلي والمتكافئ في الاستفادة من خدمة صحية محترمة. المدن المتوسطة ليست هامشًا، وسكانها ليسوا مواطنين من الدرجة الثانية. والرهان على الاستثمار الصحي فيها هو رهان على مغرب متوازن، عادل، وإنساني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى