الفضاء الرقمي في قبضة الحسابات المأجورة والسياسيون يستغلونها

 

أميمة المغاري: صحافية متدربة

في زحمة التعليقات على أحد الفيديوهات السياسية، شدّني وقع تكرار عبارة واحدة: اغراس اغراس ولنواصل المسار “في البداية، ظننته مجرد تعليق عابر، وعبارة عفوية لكنها سرعان ما تحوّلت إلى علامة استفهام، حين وجدت أن الجملة ذاتها تتكرر، بالصيغة وبعلامات الترقيم نفسها وتحت عشرات المنشورات التي تصب في اتجاه سياسي واحد، حينها يُصبح السؤال مشروعًا: هل هذا تفاعل حقيقي؟ أم حملة منظّمة تهدف لتوجيه الرأي العام؟

ان تكرار التعاليق نفسها ليس مجرد صدفة بل استراتيجية مدروسة متقنة لتحريف بوصلة النقاش، وتلميع صورة سياسية معينة او لتقويض مصداقية خصومها، وخلق مناخ عام، لتوجيه الحوارات، وتشتيت النقاشات الحقيقية باستخدام حسابات تبدو في ظاهرها “حقيقية، لكن في جوهرها “مُصطنعة”.

ظاهرة جديدة، أو لعلها قديمة بثوب رقمي جديد، تُعرف بـ”مزارع الكليك”. لا علاقة لها بالفلاحة، ولا تُنتج الحبوب أو الخضراوات، بل تزرع الوهم، وتحصد التفاعل. حسابات قد تكون وهمية أو مأجورة تعمل ليلًا ونهارًا من غرف رقمية مغلقة، لتنتج آلاف التعليقات، تُغرق بها المنشورات، وتُعيد صياغة الرأي العام على مقاس الجهة التي تموّل وتُخطّط هدفها تشكيل صورة شعبية، صورة تُلمّع جهة ما، تُصوّرها وكأنها تحظى بإجماع جماهيري، بينما كل شيء مفبرك: الإعجابات، التعليقات، وأحيانًا حتى الحسابات نفسها فمن له دراية بالأمر، سيلاحظ تشابه الصور الشخصية في هذه الحسابات، غياب المحتوى الشخصي، والغياب التام عن التفاعل إلا مع منشورات معينة. كلها إشارات تفضي إلى أن هذه الحسابات خُلقت لهدف واحد: التاثير على النقاش العام.

عندما تُغرق مواقع التواصل بعبارة واحدة تتكرر في كل منشور، فالمستخدم العادي قد لا يملك الوقت لتدقيق مئات التعليقات، بل يكتفي بالانطباع الأول: “الجميع يقول الشيء نفسه”، فيظن أن الرأي العام قد حُسم، وأن “الطريق الصحيح” معروف، و”المسار” محسوم، ولا حاجة للتساؤل ولا مجال للاختلاف ويصبح من الصعب على المتلقي البسيط أن يفرّق بين الصدق والتزييف، بين الرأي النابع من قناعة، والصدى المصنوع خلف الآلات “الماكينات،”وهنا يتحول الرأي إلى حقيقة، والتكرار إلى إقناع غير مباشر.

حقيقة في هذا العالم لا وجود للصدفة، كل تعليق في مكانه، كل جملة مدروسة، كل إشادة محسوبة. قد يظن المتابع أنه بين جماهير حقيقية تهتف لقضية ما، لكنه في الواقع بين آلات إلكترونية مبنية على الخداع.

لم يعد من الضروري أن يكون الرأي صادقًا ومبنيا على قناعات كل ما تحتاجه هو جيش إلكتروني، حسابات بأسماء مستعارة، وجمل جاهزة تُنسخ وتُلصق على مدار الساعة.

لا حاجة للنقاش أو التحليل. فالكلمات جاهزة، والأدوار موزّعة، والغاية واضحة: السطو على النقاش العام، وتشكيل مناخ سياسي أو اجتماعي متماشيا مع رغبة الجهات التي تقف وراءها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى