القطار فائق السرعة بالمغرب: من “ترف مشكوك فيه” إلى رافعة تنموية شاملة

 

ذ. بدر زاهر الأزرق*

عندما أُعلن عن مشروع الخط السككي فائق السرعة الرابط بين طنجة والقنيطرة، لم يكن الجدل منصبًّا فقط حول كلفته المالية، بل امتد ليشمل تساؤلات أعمق بشأن الجدوى الاقتصادية والاجتماعية لهذا الاستثمار الضخم. آنذاك، رأى البعض في هذا المشروع نوعاً من الترف غير المبرَّر في بلدٍ لا تزال فيه نسب الفقر والهشاشة والبطالة مقلقة، واعتبره آخرون خطوة متقدمة غير متناغمة مع أولويات التنمية الاجتماعية العاجلة.

ورغم وجاهة هذه التساؤلات في ظل محدودية المعطيات المتوفرة آنذاك حول الدراسات الاستشرافية والجدوى الاقتصادية، فإن واقع الحال اليوم، وبعد سنوات من تشغيل هذا الخط، يكشف عن نتائج مغايرة تماماً. فقد تَبيّن أن المشروع لم يكن مجرد رهان على الحداثة، بل خياراً استراتيجياً ساهم في إحداث تحوّل عميق على مستوى الأداء الاقتصادي لمحور طنجة–القنيطرة–الدار البيضاء، الذي شهد انتعاشاً ملموساً في مجالات متعددة.

لقد ساهم هذا الخط في تحسين جاذبية الاستثمار، وتسهيل تنقل الأفراد ورجال الأعمال، وربط مراكز الإنتاج بأسواق التوزيع والخدمات، ما أدى إلى تعزيز مكانة قطاعات واعدة كصناعة السيارات والطيران، وتنشيط السياحة في الأقاليم الشمالية. كما استفادت مدينة الدار البيضاء من هذه الدينامية، مما عزز أدوارها المالية والخدماتية، وكرّس موقعها كقطب اقتصادي إقليمي.

واليوم، ومع التوجه نحو تمديد الخط فائق السرعة ليصل إلى مراكش ثم أكادير، يبدو أن المغرب مقبل على جني ثمار استراتيجية قائمة على ربط الجهات الحيوية ببنية تحتية حديثة تواكب طموحاته التنموية. فاختصار الزمن بين شمال المملكة ووسطها وجنوبها سيكون له وقع كبير على تدفق الاستثمارات، وتحفيز الاقتصاد الجهوي، وخلق فرص شغل جديدة، لاسيما في مجالات السياحة، والخدمات، والفلاحة.

وما يزيد من أهمية هذا المشروع، هو تزامنه مع أوراش كبرى مفتوحة، من أبرزها استعداد المغرب لاحتضان نهائيات كأس العالم 2030، إلى جانب مشاريع ضخمة كالمركب المينائي الناظور غرب المتوسط وميناء الداخلة الأطلسي، وشبكة الطرق السيارة الجديدة، التي من شأنها تعزيز الاندماج الترابي والاقتصادي لمختلف جهات المملكة.

هذا التوسع في البنية التحتية، لا يندرج فقط في إطار تحسين الربط والنقل، بل يشير إلى تحول عميق في الفلسفة التنموية للدولة. فبعد سنوات من التركيز على محور طنجة–الدار البيضاء، تسعى الحكومة اليوم إلى كسر مركزية الاستثمار، من خلال خلق محاور تنموية موازية بشرق المملكة ووسطها وأقصى جنوبها، بما يضمن عدالة مجالية وفعالية اقتصادية أشمل.

وفي ضوء كل هذه المعطيات، فإن التساؤلات التي طُرحت في البداية حول “ترفية” المشروع تفقد اليوم وجاهتها. فالمردودية الاقتصادية والاجتماعية المحققة تؤكد أن الرؤية الاستراتيجية التي وُضعت كانت مدروسة وطموحة. بل ويمكن القول إن تكلفة المشروع، مهما بلغت، تبقى مبرَّرة في مقابل العائد التنموي الكبير الذي تحقق، والذي من المنتظر أن يتضاعف في المستقبل مع استكمال باقي الأشطر.

يبقى السؤال الأساسي المطروح اليوم ليس إن كان علينا الاستثمار في مثل هذه المشاريع، بل كيف نضمن أن تمتد هذه الدينامية لتشمل كل الجهات، وتُترجم في نهاية المطاف إلى توزيع عادل للثروات وازدهار شامل لا يستثني أحداً.

*باحث في قانون الأعمال والاقتصاد بجامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى