القفة التي أسقطت ورقة التوت!

إعلام تيفي – الرباط

لم يكن الفقر يوما خيارا، لكنه أصبح وسيلة بيد من يتقنون استغلال الحاجة وتحويلها إلى مشروع سياسي. لم تعد المعاناة ظرفًا إنسانيًا يستدعي حلولًا جذرية، بل تحوّلت إلى ورقة تُستعمل في الوقت المناسب، حيث يُوظَّف العوز كأداة للتحكم في الرقاب، ويُوزَّع الفتات بيد، بينما تُصاغ الولاءات الحزبية باليد الأخرى.

في سيدي إفني، لم تكن الشاحنة التي توقفت أمام منزل أسرة الناطق الرسمي باسم الحكومة وسيلة نقل عادية، بل كانت علامة فارقة على الطريقة التي يُدار بها الفقر من داخل مكاتب السياسيين.

ولم يكن المشهد عن مساعدات تُقدَّم لمن يستحقها، بل كان عن استثمار سياسي بموارد الدولة، عن شبكة محسوبة تُعيد تشكيل الولاءات تحت غطاء العمل الخيري، عن مشروع يُنفّذ بأدوات مكشوفة، بلا خجل، وكأن بؤس الناس أصبح جزءًا من استراتيجية تدبير الشأن العام، لا أزمة تتطلب حلًّا.

لكن ما جرى في سيدي إفني لم يكن تفصيلا هامشيا، فبعد ساعات قليلة، ظهرت صورة أخرى من ميدلت، بنفس التفاصيل، بنفس الآليات، وكأن الخطة شاملة، مُحكمة، تمضي وفق إيقاع مدروس.

لم يكن هناك أي تحفّظ، أي محاولة لإخفاء ملامح هذا التلاعب، بل كان هناك إصرار على استغلال موارد الدولة كأنها ملكية خاصة، تُدار وفق منطق الاحتكار السياسي، حيث تصبح إمكانيات الجماعات الترابية أدوات لحملة انتخابية مفتوحة، تمتد لسنوات، وتُجدَّد كلما دعت الحاجة.

وحين انكشفت الصورة، لم يكن الرد سوى التجاهل، ثم الصمت، ثم التهرب من الإجابة. وقف الناطق الرسمي باسم الحكومة في ندوته الأسبوعية، تجاهل الواقعتين تماما، لم يتحدث عن القفف، لم يعلق على الشاحنات، لم يدافع حتى عن موقفه، بل تحدث عن أسعار الزيتون، وكأن القضية لا تعنيه، وكأن ما يجري لا يمس نزاهة الحكومة التي يمثلها ولا صورة الحزب الذي ينتمي إليه، وكأن المشكلة الحقيقية ليست استغلال إمكانيات الدولة، بل في تقلبات السوق.

لكن ما لم يتوقعه صُنّاع هذه المهزلة، أن الرد لم يأتِ من المعارضة ولا من الصحافة، بل من “أم الوزارات”، حيث أصدر عامل إقليم سيدي إفني، لحسن صدقي، قرارا يمنع استغلال وسائل الجماعات لأغراض سياسية، مؤكّدًا أن هذه الممارسات انتهاك صارخ للقانون، وتهديد لمبدأ تكافؤ الفرص، وإساءة لمصداقية المؤسسات المنتخبة.

لقد كان الكِتاب صفعة في وجه من اعتقد أن موارد الدولة يمكن أن تُسخَّر لخدمة حزب بعينه، وأن إمكانيات الجماعات الترابية يمكن أن تُحَوَّل إلى أدوات لتعزيز النفوذ السياسي بدل أن تُوَجَّه لخدمة الصالح العام.

لكن هل هذا القرار كاف لوقف نزيف استغلال الفقر؟ أم أن الذين اعتادوا تحويل الحاجة إلى مكسب سياسي، سيبحثون عن طرق أخرى لمواصلة ما بدؤوه؟ هل أصبح المواطنون رهائن في حسابات سياسية، تُفتح لهم المخازن عند الحاجة، ثم تُغلق بمجرد انتهاء موسم الاستغلال؟

ما حدث ليس فضيحة يمكن تجاوزها بتصريحات رسمية، بل هو صورة مكثفة لمنظومة كاملة تتغذى على العوز، وتحكم عبر توزيع القليل لمن يحتاج الكثير، وتدير الأزمات لا لحلها، بل للتحكم في تداعياتها. هذه الحكومة لم تأتِ لإنقاذ الفقراء، بل لإدارة فقرهم، لم تُخلق لتضع حلولًا اقتصادية، بل لتوزع المساعدات وفق معايير الولاء والانتماء.

لكن ما لم يدركه من رسموا هذه السياسة، أن الزمن تغيّر، وأن الذين يقفون اليوم في طوابير القفف، لن يظلوا هناك إلى الأبد، وأن الجوع قد يُرغم الناس على القبول بالمساعدات، لكنه لن يسرق منهم وعيهم، ولن يمنعهم من السؤال يوما: لماذا أصبحنا بحاجة إلى قفة، بدل أن تكون لدينا حكومة توفر لنا الحياة الكريمة؟

حين يحدث ذلك، لن يكون الدقيق ولا الزيت كافيين لإطفاء الغضب، ولن تستطيع الشاحنات أن تحمل الخدعة إلى صناديق الاقتراع مجددا

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى