الكل تحت السيطرة… وشكرا على خدمتك!

إعلام تيفي _ الرباط

في مغرب اليوم، لا تقال الأشياء دائما بصوت مرتفع. هناك من يتكلمون كثيرا، ولا يقولون شيئا، وهناك من لا ينطقون بكلمة، لكن حضورهم وحده يحدث الضجيج.

ومن هؤلاء أيضا، من يشتغلون بصمت على ترتيب الأرضية لـ”مونديال سياسي” جديد، يأملون فيه بالظفر بولاية ثانية، حتى لو كانت على أنقاض الثقة، وعلى حساب المؤسسات التي وجدت لتقوم بالرقابة لا بالتطبيل، وعلى رأسها المؤسسات الدستورية بمختلف هيئاتها.

قد لا تكون سلطة التعيين أحيانا بأيدي بعض الفاعلين الحكوميين، لكن أثرهم حاضر في الكواليس، يجيدون فن التأثير، ويمارسون ضغطا ناعما لتهيئة المناخ الملائم أمام الأسماء التي تخدم أجنداتهم أو تتقاطع معها في المصالح والتوجهات. هي لعبة صامتة تُمارس بدهاء، عنوانها: “لا حاجة لنا بمن يزعجنا”.

لقد صار واضحا أن كل مؤسسة دستورية قد تُصدر تقريرا يربك حسابات الحكومة، تصبح عبئا يجب التخلص منه. يكفي أن تتحدث عن الفساد، عن الشباب المهمش، عن الملايير التي لا يعرف المواطن كيف صرفت، لتصبح في مرمى التصويب. ليس بالضرورة أن تُهاجم مباشرة، لكن تتم محاصرتك بالصمت، ثم بالإهمال، ثم تُصبح خارج اللعبة، ويُقال لك: شكراً على خدماتك.

في المقابل، من يلتزم الحذر، ويكتب بلون رمادي، ويُراعي “شعور” من يسكنون مواقع تدبير الشأن العام، يصبح مرشحا للترقية. الصمت هنا ليس ضعفا، بل صار عملا استراتيجيا يحظى بالمكافأة داخل هذه الهيئات.

الحزب الذي يقود التحالف الحكومي اليوم، لا يخفي طموحه في أن يمدد إقامته في الواجهة، لكنه يعرف جيدا أن الطريق نحو “الحكومة الثانية” لا تمر فقط عبر صناديق الاقتراع، بل أيضا عبر هندسة دقيقة لمراكز الثقل داخل المؤسسات الدستورية بمختلف هيئاتها، التي إن نطقت بكلمة “حقيقية”، قد تربك الحملة قبل بدايتها.

لذلك، بدأ العمل من الآن. الوجوه التي “أزعجت” تحال على صمت مؤسساتي، ويجري تعويضها بمن يستطيع أن يساير المرحلة، أو على الأقل، لا يرفع صوته. هكذا تُبنى الولاية الثانية، لا بالشعارات، ولكن بترتيب الكراسي، وتوزيع الأدوار، وتدجين الأصوات داخل المؤسسات التي وُجدت لتكون ضمير الدولة لا مرآة الحكومة.

الحديث عن المؤسسات لم يعد بريئا. صارت جزءا من معركة كبرى، لا تقل شراسة عن الانتخابات نفسها. المطلوب منها أن تكون في صف واحد، أو أن تقصى بلطف. وكل من يعتقد أن استقلاليتها تعني حرية النقد، فهو لم يفهم بعد قواعد اللعبة.

في الطريق نحو “حكومة المونديال”، يجري تنظيف الملعب من كل من قد يعكر صفو المباراة. وحدهم اللاعبون “المنضبطون” سيسمح لهم بالنزول إلى رقعة السياسة. أما الباقون، فعليهم أن يكتفوا بدور المتفرجين، ولو كانوا في الأصل، هم من صنعوا الملعب والجمهور.

إنها مرحلة الفرز الناعم، حيث لا ترفع الرايات، بل ترفع التقارير. وحيث لا يقال: “ارحل”، بل يقال: “شكرا، لقد انتهت مهمتك”.

وما لا يُدركه البعض، هو أن التاريخ لا يخلّد الأسماء بقدر ما يخلّد المواقف، وأن المؤسسات، بجوهرها، ليست أدوات للمجاراة، بل فضاءات للتوازن والتعدد وضمان الرقابة. فالصوت المختلف، وإن بدا مزعجاً في لحظة ما، هو في الحقيقة أحد شروط الثقة في البناء المؤسساتي. وتهميش هذا الصوت لا يُعبر عن قوة، بل عن ضيق أفق سياسي سرعان ما تنكشف محدوديته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى