بابا عيشور، طقوس النار والماء… وعيدٌ على إيقاع المكسرات

فاطمة الزهراء ايت ناصر
تذوب الحاجة ربيعة وسط الزحام في سوق شعبي بضواحي الرباط، تتوقف أمام بائع المكسرات، تساومه على الثمن، تلتقط حبات من اللوز والجوز والحمص، تتذوقها بتمعّن ثم تطلب قليلاً من كل نوع. ورغم ضغط مصاريف الدخول المدرسي، لم يمنعها ذلك من إحياء طقوس عاشوراء كما اعتادت منذ صغرها. تقول بابتسامة دافئة إنها تربّت على هذه العادات في بيت والدها الذي ما زال، رغم تقدمه في السن، يجمع أبناءه وأحفاده حول “القصعة”، يوزع المكسرات ويقدم أطباقاً خاصة بهذا اليوم، وكأن الزمن توقف هناك.
في المغرب، عاشوراء لا تمرّ بصمت. هي أيام فرح ولعب، تخرج فيها الذاكرة الشعبية من مخابئها وتنبض في الأسواق والدروب. الاحتفالات تنطلق مع بداية شهر محرم، وتمتد حتى اليوم العاشر، حيث تمتلئ الأسواق الكبيرة والدكاكين الصغيرة بمستلزمات العيد: دفوف، طعارج، ألعاب، ومكسرات بألوان وعبق خاص.
في ليلة التاسع من شهر محرم ، تُشعل “الشعالة” في الأزقة، نار تُوقد باسم الفرحة، ويقفز فوقها الأطفال بضحك عارم، كأنهم يطاردون ظل الخوف بالفرح. ورغم محاولات السلطات الحد من هذه الممارسات لما تسببه أحياناً من حوادث، تبقى “الشعالة” مشهداً حياً في ذاكرة الأحياء الشعبية.
يبلغ الاحتفال ذروته في اليوم العاشر، يوم “زمزم”، حيث يتراشق الناس بالماء البارد، فتتحول الأزقة إلى ساحة معركة مرحة، يتعقب فيها الجيران بعضهم بعضاً كما لو كانوا يعودون إلى طفولة مؤجلة. وفي البوادي، تُرشّ الماشية والمحاصيل طلباً للبركة، ويُطهى الكسكس بلحم “الذيالة” المملح، المقتطع من أضحية العيد، في وجبة تعتبر مسك الختام.
بعيداً عن الماء والنار، تجتمع نساء الحي في ما يعرف بـ”القديدة”، احتفال يُنظم على شرف امرأة لم ترزق بعد بالأطفال. تُشارك كل واحدة بقطعة لحم مقدد، ويُطهى الكسكس بالخضر، وتُقلب القصعة بعد الأكل في طقس غريب، حيث يُراقب اتجاه سيلان الماء فوق القصعة علّه يبشّر المرأة العاقر بخبر سعيد. وإن لم يفعل، تواسيها النساء بأن الأمل يتجدد في عاشوراء القادمة. وبين الضحك والغناء وضرب الطعارج، ترتفع الأهازيج: “قديدة قديدة منشورة على الأعواد.. بابا عيشور جا يصلي وداه الواد” و”حق بابا عيشور ما علينا الحكام ألالة”.
“بابا عيشور”، هذه الشخصية الأسطورية، تحضر بقوة في خيال الأطفال. يتنكرون له، ويطرقون الأبواب طلباً للهدايا من مال أو حلوى أو مكسرات. حضور خيالي لكنه راسخ، ينبض في أزقة المدن وبيوت القرى، كظل قديم لا يغادر.
ورغم كل هذا الفرح الشعبي، لا يغيب الطابع الديني عن المناسبة. كثير من المغاربة يصومون اليومين التاسع والعاشر من محرم، اقتداء بسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. أما الفلاحون والتجار، فيختارون عاشوراء موعداً لإخراج زكاة أموالهم، وهي ما يُعرف بـ”العشور”.
لا تُختزل عاشوراء في صيام أو ألعاب. إنها لحظة تعيد تشكيل الذاكرة، وتوقظ الموروث، وتُجدد رابط العائلة والحي والقرية. مناسبة تستعيد من خلالها الأسر المغربية شيئاً من فرحها، وتمنح الأطفال فسحة للعب، وتُجدد النساء أملهن في الغيب، ويعيد الرجال صلتهم بزكاة مالهم. عاشوراء في المغرب ليست يوماً… بل حكاية متجددة.