جعجعة الحكومة وطحين الحوار المفقود أزمة الخطاب السياسي والاجتماعي في المغرب

بقلم: عبد العزيز رجاء الرئيس المؤسس لهيئة المتقاعدين المدنيين بالمغرب
رغم الطابع السلمي للاحتجاجات الأخيرة لما أصبح يُعرف بـ”جيل زد 212″، ورفع شعارات تطالب بالعدالة الاجتماعية وتحسين التعليم والصحة وتوفير فرص الشغل. وما تلاه من خرجات إعلامية لوزراء حكومة أخنوش ابانت عن استمرار تمرير خطاب رسمي بعيدًا عن الاحتياجات اليومية للمجتمع.والذي كشف مجددًا عن الهوة العميقة بين التوجه الحكومي والواقع المعيشي، وعن أزمة ثقة تتفاقم يومًا بعد يوم بين المواطنين بمختلف أجيالهم وصناع القرار.
تصريحات رسمية… وواقع مغاير
توالت التصريحات الحكومية بعد موجة الاحتجاجات، لكن معظمها جاء محمّلاً بالتبريرات أكثر من إقرار الحلول.
لقدأعاد السيد رئيس الحكومة إلى الأذهان مقولة الرئيس المخلوع بن علي بأسلوب مختلف قائلا: “الحكومة تستمع وتستوعب رسائل الشباب، وستعمل على مراجعة أولوياتها الاجتماعية.”تصريحٌ جاء في وقت لم يعد الشارع المغربي يثق في الوعود الحكومية والتي لا تُترجم أغلبها إلى أفعال ملموسة مع استثناء برنامج (إعادة تربية المغاربة).ووعد سحب قانون الإثراء غير المشروع، وتمرير قانون الإضراب، وغيرها من برامج الشعار الخالد (تستاهلوا …) ومع استمرار نفس النهج وضعف التجاوب، تزداد القناعة لدى فئات واسعة من المواطنين بأن التغيير الحقيقي لن يأتي من هذه الحكومة، بل من التوجيهات الملكية السامية ومن إرادة مؤسسة العرش، والجالس عليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره الضامن الأساسي لوحدة المملكة واستقرارها، وصمام الأمان عبر التاريخ.
أما وزير العمل فصرّح بأن “رسالة المحتجين وصلت، لكننا نجد صعوبة في الحوار معهم بسبب غياب مخاطب منظم.”وهو تبريرٌاعتبره كثيرون محاولة للهروب من جوهر الأزمة، فالمشكل ليس في غياب المخاطب بل في غياب الإرادة الحقيقية للإصغاء وللتغير.
كما شدد الناطق الرسمي باسم الحكومة على أن “الحوار مفتوح، والمغرب بلد الإصلاحات، لكن بعض التعبيرات الاحتجاجية شابها تجاوز” وهو تصريحٌ ركّز على الشكل أكثر من المضمون، مما يفهم منه التفاف على جوهر المطالب الاجتماعية العميقة ولم يكتفي بذلك بل أعطى تصريح مغلوط لقناة العربية بأن الحد الأدنى للأجور في القطاع العام يبلغ 4500 درهم، وفي القطاع الخاص 10 آلاف درهم. قوبل بتكذيب واسع من طرف المواطنين، خاصة الأجراء الذين يدركون أن واقعهم بعيد تماماً عن هذه الأرقام. ولمحاولة احتواء الجدل، قدّم الوزير تبريراً واهياً قائلاً إن كلمة “متوسط الأجر” سقطت سهواً، ما اعتبره الكثيرون “عذراً أقبح من الزلة”
أما وزير الصحة، فقد أجّج الغضب الشعبي حين خاطب أحدهم بأسلوب متعالٍ زاد من تأزيم الموقف قائلا : “سير للرباط واحتج “، في تحدٍّ واضح لمشاعر فئات واسعة من المواطنين المطالبين بالكرامة. ،
وزاد الوزير كريم الطين بلّة حين شبّه وضع المغرب بألمانيا قائلاً إن “حتى ألمانيا تعيش نفس المشاكل في الصحة والبطالة”، في تصريح أثار سخرية المتابعين واعتُبر محاولة غير موفقة لتبرير فشل السياسات العمومية
لم يقف الخلل عند حدود الخطاب، بل تجاوزه إلى سلوك سياسي مثير للجدل. فقد أثار وزير العدل عبد اللطيف وهبي موجة استياء عارمة حين أطلق قهقهات ساخرة رفقة بعض الوزراء، خلال مناسبة رسمية لإحياء ذكرى وفاة جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، وهو تصرف اعتُبر استخفافاً بقدسية المناسبة وما ترمز إليه من وحدة روحية ووجدانية للمغاربة.
كما أظهرت هذه التصرفات والمشاهد ضعف الخبرة السياسية والتواصلية لدى عدد من الوزراء “الأخنوشيون “الذين بدوا عاجزين عن تقديم تفسيرات واضحة أو حلول عملية خلال ظهورهم الإعلامي، معتمدين بدل ذلك على الانفعال وإطلاق الاتهامات الجاهزة في حق بعض الصحفيين والبحث عن مبررات تحكمها قوانين تنظيمية خاصة. بدل اعتماد تحليل موضوعي ومسؤول لما وقع. جيث أصبح الخطاب الحكومي مكررا، و يفتقر إلى المصداقية والعمق، إذ يواجه المواطن مشاكله اليومية بلا حلول عملية ولا قرارات حقيقية. بالرغم من أن عدد من الوزراء يخضعون لدورات تكوين في “فن الخطاب الإعلامي” وإتقان لغة الرد والإقناع، من مؤسسات مختصة وبمصاريف باهضة تدفع من جيوب دافعي الضرائب. لكن النتيجة كانت تصنع واجهة شكلية لواقع مأزوم.
الملاحظات التي يمكن تسجيلها على هذه الحكومة:
• ضعف الكفاءة التواصلية والسياسية لبعض الوزراء.
• غياب التفاعل الميداني مع المطالب الاجتماعية.
• فجوة متزايدة بين اللغة الرسمية والواقع المعيش.
• الحاجة الماسة إلى خطاب واقعي وصادق يربط القول بالفعل.
المتقاعدون والمسنون: الوجه الآخر للإهمال
في خضم انشغال الحكومة بتبرير مواقفها، تُنسى فئة المسنين والمتقاعدين، وهم آباء وأجداد الشباب المحتج.فئة خدمت الدولة لعقود طويلة، لكنها اليوم تعيش على هامش الاهتمام العام، تعاني من معاشات هزيلة وتغطية صحية ضعيفة، في ظل ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية.
إنهم الوجه الآخر للأزمة الاجتماعية نفسها: شباب مهمّش يبحث عن المستقبل، ومسنّون متقاعدون أُقصوا من الحاضر. كلاهما ضحية سياسات لم تُنصف التضحيات ولم تفتح أبواب الأمل.
بين الخطاب والواقع… الثقة المفقودة
في الوقت الذي تُنفق فيه الدولة مبالغ ضخمة على الحملات التواصلية وتحسين الصورة، يظل المواطن يبحث عن أثرٍ ملموسٍ في حياته اليومية:
أسعار أقل، خدمات أفضل، تعليم وشغل وصحة تليق بالكرامة الإنسانية، زيادة في المعاشات بما يناسب ارتفاع تكلفة العيش اليومي للمتقاعد وأسرته.
كل خطابٍ بلا فعل يزيد من اتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع، ويغذي فقدان الثقة في المؤسسات السياسية والحكومية، لأن الناس لم تعد تصدق الكلمات، بل تنتظر الأفعال.
الإصلاح لا يُقاس بالكلام
اليوم يقف المغرب أمام لحظة مفصلية:إما أن تختار الحكومة الصدق والمصارحة، وتحول الحوار إلى إصلاح فعلي ينعكس على حياة المواطنين،أو أن تقدم استقالتها بدل أن تستمر في اللف الدوران في فلك الشعارات والصور المصطنعة، متجاهلة أن المجتمع تغيّر وأن الوعي الجمعي لم يعد يُخدع بسهولة.
فـ”الدولة الاجتماعية” التي أعلن عنها صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، لا يمكن أن تتحقق إلا بإرادة سياسية صادقة تُترجم الأقوال إلى أفعال، وتعيد للمواطن إيمانه بأن كرامته فوق كل اعتبار.