حكومة الشنّاقة وأشياء أخرى

إعلام تيفي _ الرباط
ها هو نزار بركة، الوريث الشرعي لحزب الاستقلال، يتقمص في بلاطو برنامج «نقطة إلى السطر» على قناة «الأولى» دور السياسي الغاضب، يكيل التهم للمضاربين، يندد بمنطق “الهمزة”، ويتحدث عن أزمة أخلاقية وكأنه مراقب محايد، لا كفاعل سياسي مشارك في مشهد ساهم بنفسه في صياغته.
يقف في موقع الشاهد، بينما هو أحد المشاركين، يتحدث عن الاحتكار دون أن يشير إلى المحتكرين، يهاجم الأسواق دون أن يقترب من أولئك الذين يتحكمون في مفاتيحها، ويرفع صوته ضد الغلاء لكنه لا يذكر كيف تحول الاقتصاد إلى شبكة مصالح مغلقة، تتحكم فيها قلة وتدفع الأغلبية الثمن.
لكن المثير ليس غضب نزار بركة، بل طريقته في تقديم المشكلة وكأنها ظاهرة طبيعية، كأن الاقتصاد انفصل عن السياسة، وكأن “لوبيات الهمزة” ظهرت فجأة من العدم، لا كنتيجة مباشرة لسياسات ممنهجة خنقت الأسواق الحرة وأطلقت يد الاحتكار. كيف لرجل يتزعم حزبا وطنيا عريقا ويتقلد وزارة التجهيز والماء، ويشارك في تحالف حكومي أغلبي، أن يتحدث عن الأزمات كما لو كان معلقا رياضيا؟ كيف لمن شارك في هندسة اختيارات اقتصادية أن يشتكي من نتائجها؟ كيف لوزير يجلس كل أسبوع في مجلس الحكومة أن يتصرف كمعارض لا حيلة له أمام هذا الواقع؟
ولأن السياسة لا تعترف بالفراغ، فإن مساحة التردد هذه لم تذهب سدى، بل وجدت من يملؤها بلا تردد. عزيز أخنوش لم يأتِ ليقود حكومة، بل ليؤسس لنموذج من التدبير الاقتصادي، حيث الحكومة ليست سوى امتداد لمصالح نخبوية، وحيث القرار السياسي ليس منفصلا عن الإمبراطورية المالية، وحيث السلطة التنفيذية تصبح فقط أداة لإعادة توزيع الثروة وفق قواعد واضحة: الربح مضمون لفئة معينة، والخسارة موزعة على الجميع.
كيف نفسر أن رجلا واحدا بات يضع يده على الفلاحة، والصيد البحري، والمحروقات، والتوزيع، والتأمين، والأدوية، والهيدروجين الأخضر، وأشياء أخرى؟ كيف تحول الاقتصاد الوطني إلى امتداد لمجموعة اقتصادية خاصة؟ كيف أصبحنا أمام نموذج يذكرنا بأسوأ مراحل الرأسمالية المتوحشة، حيث لا فصل بين المال والسلطة، وحيث القرار الاقتصادي لا يصاغ بناءً على اعتبارات وطنية، بل وفق مصالح تجارية بحتة؟
وحين يخرج نزار بركة ليحدثنا عن “ميثاق اقتصادي أخلاقي”، فإن ذلك ليس سوى اعتراف بالعجز. من يملك السلطة التنفيذية لا يحتاج إلى المواثيق، بل إلى قرارات. من يدير الشأن العام لا يكتفي بالمواعظ، بل يتحمل مسؤوليته في وقف زحف الاحتكار. ومن يدافع عن القدرة الشرائية لا يرضى بأن يكون شريكا في حكومة يقودها رجل أعمال يمثل مصالح اقتصادية واضحة.
لكن السؤال الأهم هنا ليس عن نزار بركة، فالرجل، وإن بدا متناقضا، إلا أنه ليس سوى انعكاس لمعضلة أعمق، وهي كيف تفقد الأحزاب الوطنية قدرتها على المبادرة، وكيف تتحول من مؤسسات إنتاج السياسات إلى أدوات لتبرير القرارات.
حزب الاستقلال، الذي كان يوما مدرسة وطنية بامتياز، حزب المفكرين والسياسيين الذين خاضوا معارك السيادة الاقتصادية والاجتماعية، يجد نفسه اليوم مجرد رقم في معادلة لا يتحكم فيها، شريكا بلا نفوذ، حاضرا بلا تأثير، يرفع شعارات لا تجد طريقها إلى التنفيذ. كيف انتهى الحزب الذي قاد أشرس المعارك ضد الاستعمار ليكون شاهدا صامتا على استعمار اقتصادي جديد، حيث تتحول الحكومة إلى وسيلة لإعادة توزيع النفوذ وليس لتحقيق التنمية؟
أما عزيز أخنوش، فهو تجسيد لنموذج اقتصادي وسياسي جديد، حيث لم يعد رجل المال بحاجة إلى وسطاء سياسيين، بل يمارس سلطته بنفسه، وحيث لا يقتصر الاحتكار على الأسواق، بل يمتد ليشمل القرار الحكومي، وحيث لا تعود السياسة صراعًا بين رؤى متنافسة، بل تصبح تدبيرًا لشبكة مصالح متداخلة.
وإذا كان نزار بركة يعتقد أن رفع الشعارات والمزايدات يكفي لطمأنة المواطنين، في حين أن الواقع يثبت أن التوازنات السياسية لا تُبنى بالكلمات، بل بالقرارات الجادة التي تُترجم إلى حلول ملموسة.
المغاربة قد يتحملون الصعاب، لكنهم لا ينسون أن السياسة لا يمكن أن تكون فقط وعود موسمية تستخدم في فترات الأزمات.
وعندما تتأخر الإصلاحات الحقيقية، يصبح الحديث عن المشاكل أداة لإخفاء العجز.
الثقة لا تُكتسب عبر الكلمات، بل بالأفعال التي تلامس هموم المواطنين وتُجسد تطلعاته، وتصبح الحكومة في تلك اللحظة اختبارا حقيقيا لجدية نواياها في مواجهة التحديات.