حي النور بالدار البيضاء بين الهجرة والتدين: قراءة نفسية اجتماعية في ظاهرة الكنائس الإفريقية

ذ.فؤاد يعقوبي
ما الذي يحدث حين تتقاطع الجغرافيا المهمشة مع الهويات المرتحلة؟ ماذا يعني أن تنبت كنيسة في قبو عمارة، أو مرآب ضيق، أو شقة منسية في عمق حي شعبي مغربي؟ هل نحن بصدد مشهد ديني عادي؟ أم أمام ارتجاج صامت في البنية النفسية والثقافية لمجتمع لم يعد يعرف كيف يتعامل مع الآخر حين يقتحم عقر دار الذات؟
في حي النور، كما في غيره من أحياء الهامش الحضري بالمغرب، لا تنمو الظواهر بشكل بريء. الكنائس غير المرخصة التي يتزايد عددها، والتي يرتادها مهاجرون أفارقة جنوب الصحراء، ليست فقط نتيجة فراغ قانوني أو تهاون إداري. إنها، من منظور علم النفس الاجتماعي، عرض صريح لانكسار مزدوج : انكسار الوافد الغريب في المنفى، وانكسار المواطن الذي لم يعد يميز بين ما هو له، وما أخذ منه.
إن المهاجر الذي يغادر بلاده لا يخلع فقط جواز سفره، بل ينتزع من ذاكرته، من لغته، من ترابه. وعندما يصل إلى المدينة المغربية، لا يستقبله الحي ولا تحتضنه المؤسسات، بل يلقى به في هوامش مكتظة، يبحث فيها عن صوت، عن جسد، عن دفء لا توفره الخيام ولا السياسات. ومن هنا تولد الكنيسة. ليست فقط معبدا، بل حصنا نفسيا، طقسا للتماسك، وسلاحا رمزيا ضد الانمحاء. الكنيسة في هذا السياق ليست اختيارا دينيا بقدر ما هي صرخة وجودية.
لكن ماذا عن الطرف الآخر؟ المواطن المغربي الذي يرى هذا التمدد الديني المختلف ينمو في أحيائه، على بعد أمتار من مسجده، في شقته الجانبية، دون ترخيص، دون تفسير. لا يملك أدوات الفهم، ولا مساحة الأسئلة، فيكتفي بالرفض. يرفض باسم الهوية، باسم الانتماء، وأحيانا باسم الخوف. وفي عمق هذا الرفض يسكن مفهوم التهديد الرمزي، كما يشرحه علم النفس الاجتماعي: حين تشعر الجماعة أن رموزها، ومقدساتها، ونمط حياتها، مهدد لا بالعدوان، بل بالتماهي التدريجي مع ما لا يشبهها.
حي النور إذن ليس فقط حيا. إنه مختبر نفسي اجتماعي مفتوح، تتفاعل فيه الهويات تحت الضغط، وتتصادم فيه التمثلات الجماعية حول الدين، والانتماء، والشرعية. وبين مهاجر يبحث عن الانغراس، ومواطن يشعر بالاقتلاع، تقف الدولة مترددة وصامتة أحيانا ، خوفا من اتهامات العنصرية أو انتهاك الحريات، لكنها في صمتها هذا تغذي أزمة أكبر: أزمة الثقة، وأزمة إدارة التعدد.
هل نحن مستعدون، كمجتمع، لإعادة تعريف العيش المشترك؟ هل نملك الذكاء الإجتماعي للتعامل مع الآخر كفرد غريب جروح دون التماهي معه؟ ودون السقوط في فخ العاطفة الزائدة؟ وهل نملك الجرأة لننظر في مرآة أنفسنا ونعترف أننا، كمغاربة، لسنا بمنأى عن التصدع في هويتنا حين نتجاهل أسئلة من هذا النوع؟
*فؤاد يعقوبي
دارس لعلم النفس الإجتماعي في السياق المغربي.