دادس..ذهب الورد في يد المستثمرين والشوك للفلاحين

فاطمة الزهراء ايت ناصر

على بعد كيلومترات قليلة من مدينة قلعة مكونة، وتحديدًا في ايت سدرات السهل الغربية، تبدأ رحلة الورد، ليست رحلة عطر وجمال كما يظن كثيرون، بل رحلة تعب وأمل ووجع صامت لا يُشمّ إلا في وجوه الفلاحين المتعبين.

في هذا الحقل الصغير حيث تتفتح الوردة الدمشقية، المعروفة محليًا بـ”الوردة العطرية” أو “الورد البلدي”، تتحرك أيادٍ خشينة، أنهكها التعب، تقطف الورد بصبر، فلا وقت هنا للتأمل في الجمال، ولا مكان للرومانسية في موسم تدور فيه حياة أسر بأكملها حول بضع دراهم تنتظرها بفارغ الصبر.

ورغم ما تضفيه الوردة الدمشقية من أريج عطِر وجمالية ساحرة على حقول حوض دادس، فإن خلف هذا الجمال تختبئ معاناة حقيقية لفلاحين صغار لا يجني أغلبهم من هذا الموسم سوى دريهمات لا تسد حتى أبسط احتياجاتهم، ناهيك عن الديون المتراكمة عليهم طوال السنة.

ففي قلب منطقة ايت سدرات السهل الغربية، وعلى مشارف قلعة مكونة، تنطلق سنويًا عملية جني الورد خلال فترة قصيرة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع، لكنها أسابيع مصيرية لكثير من العائلات.

ورغم أن الورد يُعد موردًا اقتصاديًا واعدًا ويُستغل في صناعات التجميل والعطور، فإن الفلاح الصغير في المنطقة يُستغل من طرف معامل التقطير الكبرى، حيث يُشترى الكيلوغرام من الورد الأخضر بثمن لا يتجاوز 20 درهمًا.

نقطف الورد.. فيصنعون منه ذهبًا ويتركون لنا الشوك

في بساتين الورد التي تفوح بعطر الذاكرة، تتسلل النساء مع أولى خيوط الصباح، يغرسن أياديهن في شجيرات شائكة، يقطفن الجمال رغم الألم. لا يحول بينهن وبين الشوك سوى الصبر، ولا يخففن من قساوة العمل إلا بأهازيج أمازيغية تنبع من صدور أنهكها الكدح وأحياها الأمل.

بينهن من تعمل بالأجرة اليومية، ومنهن من ترعى أرضًا توارثتها عن العائلة، تحصد تعبها بيديها، ومنهن من آمنت بالعمل التعاوني، فدخلت عالم التعاونيات والجمعيات طمعًا في الكرامة والتمكين.

إنهن العمود الفقري لاقتصاد الورد في قلعة مكونة، يشكلن ما يقارب 68% من اليد العاملة في هذا القطاع، ومع ذلك لا تزال حقوق كثير منهن تذبل كما تذبل الوردة بعد موسمها القصير.

في حديث مؤثر مع إحدى قاطفات الورود بقلعة مكونة، كشفت المتحدثة عن واقع صادم تعيشه العاملات الموسميات في حقول الورد. تقول القاطفة، وهي تمسح العرق عن جبينها تحت شمس حارقة: “نشتغل أكثر من عشر ساعات يوميًا، ونتقاضى ما بين 80 و100 درهم فقط. نُجبر على قطف ما يقارب 30 كيلوغرامًا من الورد يوميًا، وكل من تتأخر أو تُرهق، يُخصم من أجرها، هذا إن وصلها أصلًا…”

وتُضيف “فاظمة” بصوت يختلط فيه التعب بالخذلان ل“إعلام تيفي”: “زيت الورد هذا العام وصل ثمنه لـ21 مليون سنتيم للتر الواحد لكننا، نحن من نقطفه ونحمله على ظهورنا، لم نرَ من هذا الذهب شيئًا. الأجور تتأخر، والمعاملة سيئة، ولا أحد يُنصت لنا.”

“أنا أرملة منذ خمس سنوات، أُعيل طفلين صغيرين، ولا مورد لي سوى هذا الحقل. لا معاش، ولا دعم، فقط وردة أنتظر موسمها القصير كل عام. أستيقظ مع أولى خيوط الفجر، ألفّ رأسي بمنديل بسيط، وأرتدي جلبابي المتواضع، ثم أتوجه إلى الحقل سيرًا على الأقدام تقول إحدى قاطفات الورد.

وتضيف ل“إعلام تيفي” أعمل تحت الشمس الحارقة، يداي تخترقهما الأشواك، وظهري ينحني تحت ثقل التعب، لكن لا خيار لي. أقول لنفسي: “لعلّي أجمع ما يسد دَيني، أو أشتري به ما يسكت جوع أطفالي”.

لكن عندما يُوزن الورد، وتُدفع لي عشرون درهماً للكيلوغرام، أشعر أن جهدي يُسحق كما تُسحق الوردة في معاصرهم، ولا يبقى لي منها سوى التعب.

ويقول أحد الفلاحين بصوت مثقل بالحسرة: “ننتظر هذا الموسم عامًا كاملاً، نؤجل أداء الديون للدكان، نؤجل حتى شراء الحذاء الجديد لأطفالنا، وفي النهاية، الكيلوغرام الواحد يُشترى منا بـ20 درهمًا!”

ويضيف:”زرع الورد ليس بالأمر السهل، وجنيه أصعب، ومع ذلك، لا يعكس ثمن البيع حجم الجهد المبذول. والوحدات الصناعية التي تكاثرت مؤخرًا لا تختلف كثيرًا، إذ يسيطر كبار المستثمرين على السوق، فيما يظل الفلاح الصغير في الهامش، كما كان دومًا”.

“هناك من حوّل الورد من مجرد حاجز طبيعي بين البساتين إلى مورد استثماري مربح، لكنه لا يعود بالنفع إلا على كبار المستثمرين”، يقول الفلاح.

على الطريق الوطنية رقم 10، الرابطة بين ورزازات وقلعة مكونة، تظهر مشاهد أخرى، شباب وأطفال يفترشون جنبات الطريق، يعرضون باقات من الورد الدمشقي في أشكال جميلة، بعضها تقليدي وبعضها إبداعي. لا يملكون متجراً، بل يبيعون مباشرة للسائح أو المار العابر مقابل دريهمات قليلة.

يقول أحدهم: “نصنع هذه الباقات في المنزل، نبيعها للسياح المغاربة والأجانب بين 25 و30 درهما، أحياناً نكسب بين 100 درهم و500 في حالة نادرة ، وأحيانًا لا نبيع شيئًا.”

في المقابل، ووسط هذه اللوحة القاتمة، برزت ضيعات كبرى تابعة لمستثمرين كبار حُوّلت إليها مئات الهكتارات. تبدو من بعيد وكأنها تحارب التصحر، لكنها تستنزف الفرشة المائية الهشة أصلًا في حوض دادس.

لا تزال قلعة مكونة تحتفظ بموسمها السنوي، مهرجان الورود، الذي يُعد ثاني أقدم مهرجان في المغرب بعد “حب الملوك” في صفرو. يُنظم في شهر ماي من كل سنة، ويستمر لأسبوع، تزامنًا مع موسم جني الورود الذي قد يمتد إلى أكثر من شهر ونصف، حسب ما تجود به الطبيعة من وفرة.

وحسب تقرير صادر عن المكتب الجهوي للاستثمار والفلاحة في منطقة ورزازات 2015، فإن زراعة الورد في حوض “دادس” تشمل 800 هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، ويصل معدل إنتاج الورد، سنوياً، إلى 2000 طن، ما يضعه حسب المصدر نفسه، في المرتبة الثالثة عالمياً بعد كل من بلغاريا وتركيا.

وحسب التقرير فإن عملية تثمين إنتاج الورد العطري في المنطقة، تشمل مجموع الإجراءات، ذكر من بينها: التهيئة “الهيدوفلاحية” للأراضي الصالحة لزراعة الورد العطري، تصل إلى 9.8 كيلومترات، بغلاف مالي قيمته 10.3 ملايين درهم (أكثر 1.053 مليون دولار)، وذلك لحماية المناطق المزروعة من تأثير قوة الرياح في المنطقة. كما رصد مبلغ 7.1 ملايين درهم (قرابة 727 ألف دولار) لتأهيل أساليب سقي الأراضي المزروعة بالورد، لتنتقل من طرق الري التقليدية إلى السقي بالتنقيط، وبموازاة ذلك، استفادة المزارعين من دورات تكوينية تهم الطرق الجديدة في الزرع والسقي وتثمين المنتج.

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى