روائح الحج.. حين يتعطر الشوق برماد الذاكرة

منير عطوشي
ليس الحج مجرد فريضة، بل هو شوقٌ يسكن الأرواح، ويوقظ في القلب تلك الرعشة الأولى حين نهمس: “لبيك اللهم لبيك”. شيء ما في ذرات المكان، في طيف الزمان، يجعل المشهد أكثر من طقس… إنه عبور بين الأرض والسماء، بين الحنين والمغفرة.
ما إن يقترب موسم الحج، حتى تبدأ الأرواح بالارتحال قبل الأجساد. يشتم القلب تلك الروائح العتيقة: عبق المسك في محلات الحرم، رائحة السجاد المهترئ من السجود، أنفاس الحجاج الممزوجة بالبكاء والدعاء، وحرارة الشمس حين تلامس جدران مكة القديمة. رائحة الزحام ليست خنقاً، بل امتداد لنبض حي يجمع العالم في قلبٍ واحد، بلغة واحدة، ووجهة واحدة.
من منا لا يحمل في ذاكرته مشهداً ليدٍ تهزّ الحجر الأسود بشغف، أو دمعة انسكبت أمام الكعبة، أو وجهاً غريباً صار أخاً في ساعة الطواف؟ هناك، تتلاشى الفوارق، وتُنسى الألقاب، وتُغسل الأرواح كما تُغسل أقدام الحجيج بماء زمزم.
في الحج، الزمن ليس كما نعرفه. يوم عرفة لا يُقاس بالساعات، بل بالانسكاب. الليل في مزدلفة لا يُعد بالنجوم، بل بعدد الأماني الملقاة في صمت على الحصى. وحتى الهواء هناك، محمّل بشيء لا نعرف له اسماً… دعوة قديمة؟ رجاء منسي؟ أم صوت آدم حين وقف أول مرة على تراب الحرم؟
رائحة الحج ليست في اللباس الأبيض فحسب، ولا في تلبية الجموع، بل في ذلك الفراغ الذي يتركه الغياب عنه. في ذلك الشوق الصامت الذي يراودك وأنت تتابع النقل المباشر، أو تمسح وجهك بيد حاجٍ عائد، أو تتنفس في السوق رائحة “الحناء والمسك والعطور” فتتخيل نفسك في الطريق بين منى وعرفات.
الحج هو ذلك الرابط الزمكاني الذي لا يُفك. لا يحتاج إلى طائرة أو تأشيرة. يكفيك أن تغلق عينيك في ليلة وترى نفسك هناك. أن تسمع صوت التلبية داخلك في لحظة صمت. أن تشتاق دون أن تبرر، وتبكي دون أن تُسأل.
كل عام، تتجدد الروائح… تتجدد الدعوات… ويتجدد الشوق. وبين من حظي بالحج، ومن ينتظر دوره في الصف الطويل للرحمة، يبقى القلب معلقاً بذلك المكان، حيث يُولد الإنسان من جديد، ويعود خفيفاً كما لو غُسل بالضوء.
فهل يحق لنا أن نحزن على موسم نغيب عنه، أم نفرح أن لنا فيه موعداً، حتى لو لم يُكتب بعد؟