سوق الشغل الرقمي في المغرب.. واجهة مبهرة تخفي واقعًا صعبًا

بشرى عطوشي

في السنوات الأخيرة، فرض التحول الرقمي نفسه بقوة على مختلف مناحي الحياة، وكان لسوق الشغل نصيبه من هذا التحول. اليوم، لا يكاد يمر يوم دون أن تمتلئ المنصات الرقمية بعشرات عروض العمل، وتنتشر الإعلانات عن فرص توظيف في مختلف القطاعات والجهات. مئات الطلبات تنشر يوميًا على مواقع التوظيف، وصفحات التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الهواتف الذكية، ما يوحي بحركية كبيرة ووفرة في الفرص، ويعطي انطباعًا أوليًا بأن السوق يشهد دينامية تشغيلية واعدة.

غير أن هذا الزخم الرقمي لا يعكس دائمًا واقع سوق الشغل المغربي، بل على العكس، يبدو أحيانًا وكأنه غطاء لما يعانيه الواقع من ركود وهيكليات مختلة. فالأرقام الرسمية، وعلى رأسها الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط، تُظهر أن البطالة لا تزال تشكل تحديًا كبيرًا في المغرب. خلال الربع الأول من سنة 2025، بلغ معدل البطالة الوطني 13.3%، بانخفاض طفيف عن العام السابق الذي سجل 13.7%. أما عدد العاطلين عن العمل فقد قُدر بـ1.63 مليون شخص، أي بتراجع ضئيل لا يعكس حقيقة الحركية الرقمية اليومية المفترضة.

الأرقام تكشف أيضًا أن فئة الشباب تبقى الأكثر تضررًا، إذ ارتفعت نسبة البطالة في صفوف من تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة إلى 37.7%، كما سجلت النساء معدل بطالة مرتفعًا بلغ 18.5%. ورغم الانخفاض النسبي في البطالة بالوسط الحضري، من 17.6% إلى 16.6%، فإن هذا التراجع يبقى محدودًا أمام التحديات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة.

مفارقة حقيقية تعيشها الساحة المغربية بين حركية رقمية مبهرة وواقع اقتصادي واجتماعي يرزح تحت وطأة البطالة وتراجع فرص الشغل المستقرة. فكيف نفسر هذه الهوة بين العرض الرقمي وبين ما يتحقق فعليًا على الأرض؟ أحد الأسباب الرئيسية لهذا التناقض يكمن في عدم تطابق مؤهلات الباحثين عن عمل مع متطلبات العروض المنشورة، إذ تعتمد الكثير من الوظائف المتوفرة على مهارات تقنية أو لغوية متقدمة، لا تتوفر بالضرورة لدى فئات واسعة من الشباب المغربي.

من جهة أخرى، يطرح موضوع مصداقية العروض الوظيفية إشكالًا كبيرًا، حيث لا تخضع العديد من الإعلانات لأي رقابة، وبعضها يكون مضللًا أو غير دقيق، مما يؤدي إلى ضياع الجهد والوقت، ويُعمق مشاعر الإحباط لدى الباحثين عن عمل. كما أن توسع مكاتب الوساطة الرقمية وغير الرقمية، والتي تقدم وعودًا مغرية مقابل مبالغ مالية أحيانًا، يفتح الباب أمام الاستغلال بدل التوظيف الحقيقي، ويضعف الثقة في المنظومة ككل.

في ضوء هذا الوضع، يبرز سؤال جوهري: هل التحول الرقمي في سوق الشغل يخدم الباحثين عن عمل فعليًا، أم أنه مجرد واجهة دعائية لا تتجاوز الإبهار البصري؟ يبدو أن الجواب يقتضي إعادة النظر في طريقة اشتغال هذه المنصات ومكاتب الوساطة، وضمان الربط الحقيقي بين العرض والطلب، وتوفير ضمانات قانونية وتنظيمية تحمي الباحث عن عمل وتكفل له فرصًا نزيهة وعادلة.

ولكي يُسهم التحول الرقمي في حل أزمة البطالة بدل تعميقها، لا بد من اتخاذ عدة تدابير على المدى القريب والمتوسط. أولها مراقبة محتوى الإعلانات الوظيفية والتأكد من مصداقيتها، وثانيها توجيه منظومة التعليم والتكوين لتواكب التحولات الرقمية ومتطلبات سوق العمل الجديدة. كما أن تعزيز الشفافية في الوساطة وتحسين قاعدة البيانات حول التشغيل يمكن أن يُحدث فرقًا مهمًا في الفهم الدقيق للعرض والطلب، ويمنح فرصًا حقيقية للتدخل الفعّال.

إن التحول الرقمي ليس هدفًا في حد ذاته، بل هو وسيلة يجب توظيفها لخدمة النمو الاقتصادي ومحاربة البطالة. أما أن يتحول إلى وهم جماعي، يمنح انطباعًا زائفًا بحركية تشغيلية غير موجودة، فذلك أمر يجب التنبه إليه ومعالجته بجدية ومسؤولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى