سيادة تُغتصب بصمت رسمي

 

إعلام تيفي _ الرباط

كأن شيئا لم يحدث.
تم تسريب بيانات الملايين من المواطنين المغاربة، سُرقت كرامة رقمية كاملة، اخترق العدو أسوار السيادة دون أن يُطلق رصاصة، ولم نسمع صوت طوارئ، لم نر وجها مسؤولا يتحمّل تبعات ما جرى، لم يظهر أحد ليقول للمغاربة: “أنا أتحمّل المسؤولية”.
الصمت… هو الفضيحة الأكبر.

ما جرى داخل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ليس خلل معلوماتي، ولا عملية قرصنة. إنه عدوان رقمي على الكيان المؤسساتي الوطني. عدوان فجّ، مباشر، معلن، تم على يد مجموعة هاكرز جزائرية، بل بلكنة سياسية خبيثة، اختارت أن تضرب البنية الاجتماعية من عمقها، وتُذل المنظومة التي يُفترض أن تحمي المواطن لا أن تفضحه.

لكن ما يُثير الغضب، ليس في الهجوم وحده، بل في الرد. في البلاغات الباردة. في العبارات الديبلوماسية الميتة. في الغياب المستفز لوزارة الانتقال الرقمي، وفي التواري غير المبرر لوكالة التنمية الرقمية، التي شُيّدت وموّلت لتكون درعا حصينا للمعطى الوطني، فإذا بها تنهار في أول اختبار.

أين أنتم؟
يا من بشّرتم بـ”المغرب الرقمي”…
أين أنتم يا من صنعتم العناوين اللامعة ووزعتم الشعارات كما توزع الهدايا؟
أين مشاريعكم؟ أين بنياتكم التحتية؟ أين خُططكم؟ أين ميزانياتكم؟

لا يمكن الحديث عن تحوّل رقمي في غياب السيادة الرقمية، ولا يمكن الادعاء بأن المواطن محمي إذا كانت بياناته تُباع وتُنشر في غرف مظلمة على تطبيقات أجنبية، دون أن يجد من يردّ له اعتباره أو يشعره بالأمان.

تصريحات مصطفى بايتاس، الناطق الرسمي باسم الحكومة، لم تزد الوضع إلا قتامة. فبدل أن يعترف بفشل حكومي ومؤسساتي واضح في تأمين المعطيات الرقمية للمواطنين، اختار الهروب إلى الأمام وتغليف الكارثة بمنطق “المؤامرة الخارجية”. نعم، هناك جهات معادية، ولكن السؤال الحقيقي: أين كان من يُفترض أنهم يقفون على بوابات الأمن الرقمي حين تسللت هذه الجهات إلى عمق البنيات الرقمية لمؤسسات عمومية؟ كيف وصلت إلى قواعد بيانات حساسة تخص ملايين المغاربة دون أن تتحرك “السلطات المختصة” إلا بعد الفضيحة؟ أليس هذا اعترافا غير مباشر بالضعف، وبتأخر الاستجابة، وبتقاعس من يفترض أنهم حماة السيادة الرقمية؟

أن يُستعمل النجاح الدبلوماسي في ملف الصحراء المغربية كدرع إعلامي لحماية الإخفاقات الداخلية هو لعب مكشوف، لا يليق بمسؤول حكومي في موقع الناطق باسم الحكومة. فالأمن السيبراني لا يُحمى بالشعارات ولا بتكرار العبارات الفضفاضة، بل بإستراتيجيات حقيقية، بمحاسبة المسؤولين عن الفشل، وببناء جدار رقمي منيع، لا ينخره الإهمال، ولا تسقطه أول ضربة من “الهاكرز”. تصريحات مصطفى بايتاس تعكس عقلية تبريرية أكثر مما تعكس إرادة للمواجهة، وهي في حد ذاتها جزء من المشكلة، لا من الحل.

المهزلة ليست فقط في ما وقع، بل في أن من يُفترض أن يكونوا حماة السيادة الرقمية، هم أنفسهم بلا رؤية، بلا شجاعة، بلا محاسبة. وكأن السيادة الرقمية ليست جزءا من الكرامة الوطنية، وكأن ما حدث “حادث تقني” يُغلق ببلاغ صحفي وينتهي الأمر.

ما وقع أكبر من اختراق. إنه كسر لجدار الثقة بين المواطن ومؤسساته. إنه إهانة لذكاء المغاربة، ولكبريائهم، ولمفهوم السيادة الرقمية في زمن تحكمه الخوارزميات والبيانات. وإذا لم يكن هناك من يملك الجرأة ليقف أمام الناس، ويعتذر، ويتحمل المسؤولية، ويقدم حلولا لا مساحيق، فالمصيبة أعظم مما نتصور.

إن صون السيادة الرقمية مسؤولية وطنية كبرى، لا تختزل في وزارة أو وكالة. إنها مشروع سيادي كامل، مشروع أمن وكرامة ومناعة. وهذا المشروع اليوم، كما يبدو، في يد مسؤولين لا يستحقونه.

فمن يتحمّل تبعات هذا الانكشاف؟
من يكسر جدار الصمت واللامبالاة؟
من يوقف هذا التواطؤ مع الرداءة؟
ومن يعيد الكرامة الرقمية لوطن سُلبت منه أسراره، وبيعت خصوصيته، وتُرك عاريا أمام أعين المتربصين؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى