ضياع القيم بين التربية والإعلام: حين تُترك الأجهزة الأمنية وحدها في مواجهة الانحلال

منير عطوشي 

في وقتٍ تبذل فيه المؤسسات التعليمية، والدينية، والاجتماعية، جهودًا متواصلة لغرس القيم الفاضلة والمبادئ السامية في نفوس الناشئة، نجد أن هذه الجهود تصطدم كل يوم بجدار من محتويات مواقع التواصل الاجتماعي الهابطة، التي تُفرغ العمل التربوي من مضمونه، وتُضعف أثر التربية الأسرية، وتُربك مخرجات المدرسة، وتُبلبل الرسائل الدينية الواعية التي تصدح بها المساجد والمدارس العتيقة.

الواقع المرير يزداد قتامة حين تتحول حتى بعض المؤسسات الإعلامية العمومية، المفروض فيها أن تكون شريكاً في البناء الأخلاقي والثقافي، إلى أداة للهدم والتهريج، خاصة في الموسم الرمضاني، حيث تُفترض الطمأنينة والسكينة والسمو الروحي، فإذا بالشاشات تنقل لنا عكس ذلك تمامًا. يتسابق البعض إلى إنتاج مسلسلات وبرامج لا تُقدم إلا محتوى سطحيًا، مليئًا بالإيحاءات والعبث، حيث تُروَّج صور مشوهة للمرأة، وتُسوق نماذج فارغة كشخصيات محورية، ويتم التطبيع مع التفاهة تحت شعار “الترفيه”.

وهنا تطرح إشكالية محورية: هل نربي أبناءنا في الصباح، لتهدم الشاشات ما بنيناه مساء؟ وهل يُعقل أن تضيع مجهودات المدرسة، والمجالس العلمية، والجمعيات الجادة، بسبب مضمون درامي لا يخضع لأدنى معايير المسؤولية الثقافية والمجتمعية؟

في ظل هذا الانحدار، تجد الأجهزة الأمنية نفسها في مواجهة مباشرة مع نتائج هذا الانفلات. عناصر أمنية تُستنزف في التدخل اليومي ضد مظاهر الشغب، والانحراف، والعنف، والتحرش، والتفكك السلوكي، في حين أن دورها كان من المفترض أن يكون رديفًا لباقي المؤسسات، لا أن تتحمل العبء وحدها.

السياسات الجنائية والأمنية مهما كانت صارمة، لا يمكنها أن تُصلح ما يفسده إعلام غير منضبط، أو تربية مبتورة، أو خطاب ديني معزول عن الواقع. لا يُعقل أن نُرهق الأجهزة الأمنية، ونزج بعناصرها في تدخلات متكررة تُعرضهم للخطر، لمواجهة سلوكيات كان من المفترض أن يُقوّمها الإعلام، ويُوجهها التعليم، وتتصدى لها الأسرة والمجتمع.

إن هؤلاء الأمنيين، الذين يُضحّون بأنفسهم في سبيل حفظ النظام، ويخاطرون بأرواحهم في تدخلات ميدانية، لا يستحقون أن يُتركوا وحدهم في الواجهة، بينما تُكرّس أعمال فنية ومنصات رقمية ثقافة التمرد والتفاهة والاحتقار المؤسساتي. فكيف نطلب من شاب لم يرَ في حياته قدوة حقيقية في الإعلام، أو نموذجًا صالحًا في الدراما، أن يحترم القانون ويخضع للنظام العام؟

نحن أمام معركة قيمية وفكرية وثقافية، لا تقل خطورة عن معارك الإرهاب والمخدرات. بل إن خطرها يكمن في أنها تتسلل إلى العقول على مهل، وتبني قناعات مقلوبة، ثم تُخرج جيلاً لا يؤمن بشيء، ولا يحترم أحدًا، ولا يثق في أي مؤسسة. وهنا تكمن الكارثة.

إننا اليوم في أمس الحاجة إلى نهضة شاملة، تبدأ بإعلام عمومي وطني يحترم عقل المواطن ويخاطب وجدانه، وتُدعَّم برؤية تعليمية جديدة تُعيد الاعتبار للهوية المغربية، وتنخرط فيها المجالس العلمية بخطاب وسطي مقنع، وتُواكبها حملات تحسيسية واسعة في الشوارع، والمدارس، والجامعات، وحتى على وسائل التواصل الاجتماعي، تُشارك فيها كل الأطراف: من فنانين ملتزمين، ومفكرين، وعلماء نفس، ومؤثرين إيجابيين.

إن رصاص الأجهزة الأمنية لن يكفي وحده لحماية المجتمع، إذا تُرك المجال مفتوحًا أمام إعلام يزرع بذور الفوضى والاستهزاء بالسلطة والقيم. الأمن لا يبدأ من الزنزانة، بل من الوعي. والأمن لا تصنعه السلاسل الحديدية، بل يصنعه الإقناع، والإيمان بالقانون، والانتماء الحقيقي.

فلنتوقف عن تحميل الشرطة والدرك والقوات المساعدة كل التبعات. ولنبدأ بمساءلة من يعبثون بأفكار الناس من خلف الكاميرات. فالأمن مسؤولية الجميع، والإعلام والتربية أول المعنيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى