عقارات الأسر المفلسة تتحوّل إلى “فرص استثمارية”.. حين تروَّج المآسي كعروض مربحة

حسين العياشي
“شقة فاخرة بنصف الثمن”، “فرصة لا تُعوَّض”.. إعلانات براقة أغرقت منصات التواصل الاجتماعي، لكن خلف هذه العبارات الجذابة لا يقف مجرد عرض عقاري، بل مأساة أسر فقدت بيوتها بعدما عجزت عن سداد أقساط القروض. ما يُسوَّق كصفقات مربحة للمستثمرين، ليس سوى قصص إنسانية لبيوت انتُزعت من أصحابها وتحولت إلى غنائم في مزادات علنية تنظمها البنوك وشركات التمويل.
بهذا الصدد، أبانت الأرقام على ارتفاع عدد ملفات الحجز العقاري بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد الجائحة التي أثرت على القدرة المالية لآلاف الأسر. وتشير معطيات صادرة سنة 2023، إلى أن إجمالي القروض المتعثرة بلغ نحو 41,8 مليار درهم، بنسبة عجز وصلت إلى 10,2%، فيما بلغت النسبة داخل القروض العقارية 8,5%، وهو مؤشر على هشاشة الطبقة المتوسطة التي طالما اعتبرت المحرك الرئيسي لسوق العقار.
وفي ظل هذا الوضع، سجلت تقارير متخصصة أن القيمة اليومية للعقارات التي تباع عبر المزادات، على مستوى ست جهات مغربية، تقارب 44 مليون درهم، ويشكل السكن ثلثها تقريباً.
وفي تصريحها لأحد المنابر الإعلامية، أوضحت المستشارة القانونية، سناء مصلح، أن القانون المغربي يمنح الدائنين الحق في حجز ممتلكات المدينين، لكنه في المقابل يفتقر إلى آليات فعالة للوساطة أو لإعادة جدولة الديون، وهو ما يجعل كثيراً من العائلات عرضة للتشرد حتى بسبب تأخيرات بسيطة في الأداء. وترى مصلح أن الخطر الأكبر يكمن في نشوء “سوق موازٍ” يحوّل هذه الأوضاع المأساوية إلى فرص استثمارية، يتم الترويج لها على الإنترنت ببرودة لافتة، متجاهلة الأبعاد الإنسانية والأخلاقية لما يحدث.
وتحكي فاطمة، وهي موظفة في التعليم وأم لطفلين، كيف فقدت منزلها بعدما عجزت عن سداد ثلاثة أقساط متتالية بسبب تكاليف العلاج، وذلك بعد إصابة زوجها في حادث شغل: “استيقظنا ذات صباح لنجد إعلاناً عن بيتنا في مزاد علني. لم يمنحونا فرصة لإعادة التفاوض أو جدولة الدين. اليوم أعيش مع أسرتي في شقة مكتراة صغيرة، وأشعر أن سنوات من التضحيات ذهبت هباء”. شهادة مشابهة يقدمها حسن، عامل مياوم بمدينة فاس، الذي اضطر إلى مغادرة منزله بعد أن فقد عمله إثر وعكة صحية، بقول أن البنك كان يتصل به كل يوم، وعندما لم يتمكن من الدفع، باعوا المنزل في المزاد، ليصادف إعلانا يحمل صور بيت أولاده على الإنترنت تحت عنوان “فرصة لا تُعوَّض”.
الباحثون في الاقتصاد يرون أن هذه الظاهرة تعكس بوضوح الترابط بين الظروف الاقتصادية، وسلوك الأسر في الوفاء بالتزاماتها البنكية. فمع تراجع القدرة الشرائية وتباطؤ النمو، تتزايد حالات التعثر، وهو ما يفاقم بدوره حجم المزادات العقارية ويغذي سوقاً غير متوازن، يربح فيه المستثمر على حساب أسرة فقدت منزلها. وفي المقابل، يلاحظ أن السوق العقاري نفسه يعيش أزمة، حيث تراجعت المبيعات بنسبة 30% بين يناير ومارس 2025 مقارنة بالفصل السابق، ما يعكس انكماش الطلب رغم استقرار الأسعار.
ورغم أن البنوك تتذرع بحماية حقوقها وحقوق المودعين، إلا أن الجدل يتجاوز البعد القانوني الصرف ليطرح أسئلة عميقة حول العدالة الاجتماعية ودور الدولة في حماية الحق في السكن. فهل من المقبول أن تتحول بيوت الأسر إلى “غنائم قانونية” تعرض على الملأ كسلع تجارية، دون توفير بدائل تضمن لهذه الأسر حياة كريمة؟ أم أن الظاهرة تفرض إعادة النظر في سياسات الوساطة البنكية، وجدولة الديون، وربما إطلاق برامج دعم جديدة تحمي المواطنين من فقدان أهم ما يملكون، سقف يأويهم؟
بين لغة الأرقام الباردة التي تحصي القروض المتعثرة والمزادات اليومية، وصوت الأسر التي تجد نفسها في العراء، يظل المشهد محكوماً بمفارقة صارخة: ما يُسوَّق كفرص استثمارية رابحة ليس سوى مآسٍ إنسانية مغلفة بعروض جذابة. ويبقى التحدي مطروحاً أمام السلطات وصناع القرار: كيف يمكن الموازنة بين استقرار النظام المالي وحماية حق الناس في السكن، دون أن تتحول الأزمات الاجتماعية إلى مادة للتسويق والاستغلال؟