فرنسا على حافة الزلزال: سقوط الحكومات وصعود الشارع

د. يوسف الادريسي الحسني
رئيس الجمعية الفرنسية المغربية لحقوق الإنسان -باريس

فرنسا اليوم تقف على فوهة بركان سياسي متفجر. حكومة جديدة سقطت للمرة الثانية في أقل من عام، والبرلمان يعلن بوضوح انعدام ثقته في السلطة التنفيذية، بينما الشارع يغلي ويستعد لموجة جديدة من الاحتجاجات في 10 و18 سبتمبر.

المشهد يبدو أكثر من أزمة سياسية عابرة؛ إنه إعلان عن مرحلة انهيار متدرج في شرعية السلطة، وعن تآكل متسارع في صورة الرئيس إيمانويل ماكرون الذي لم يعد يملك سوى القليل من الأوراق للمناورة.

لم يعد الأمر مرتبطا فقط بميزانية تقشفية أو بإجراءات إصلاحية مثيرة للجدل، بل بات انعكاسًا لهوة عميقة بين الطبقة السياسية والشعب. البرلمان أسقط الحكومة بأغلبية واضحة، فيما القوى الاجتماعية تستعد للتصعيد تحت شعار “لنوقف كل شيء”، وهو ما ينذر بأن فرنسا تدخل في ديناميكية احتجاجية شاملة لا تقتصر على النقابات، بل تمتد إلى المواطنين العاديين، إلى العمال، إلى الشباب الذين يرفضون أن تُصادر أحلامهم تحت وطأة سياسات تقشفية لا تترك لهم شيئًا سوى الغضب.

الشعبية المتهاوية لماكرون تزيد الطين بلة. لم يعد الرئيس ذاك القائد الذي يستطيع التوفيق بين تيارات متناقضة داخل الساحة السياسية، بل تحول إلى هدف مباشر لغضب الشارع. الأصوات المطالبة بتنحيه لم تعد هامشية؛ بل صارت جزءا من النقاش العام، من الحوارات اليومية، من اللافتات التي ترفع في المظاهرات. هذه ليست مجرد أزمة حكومية، إنها أزمة ثقة في رأس الدولة ذاته.

الاقتصاد بدوره لا يمنح أي متنفس. الدين العام يقترب من مستويات قياسية، العجز يتعمق، والأسواق تراقب بقلق. وفي هذا السياق، يصبح الاحتقان الاجتماعي أكثر خطورة، إذ تلتقي الأزمة المالية مع الأزمة السياسية، في دوامة قد تجر البلاد إلى انتخابات مبكرة أو حتى إلى إعادة رسم الخريطة الحزبية بالكامل.

لكن الأهم في هذه اللحظة هو ذلك الإحساس الجمعي بأن الدولة الفرنسية لم تعد تملك السيطرة الكاملة على المشهد. ماكرون بدا في خطابه الأخير مترددا، وكأن كلماته لم تعد تجد طريقها إلى قلوب الفرنسيين. هنا بالذات يكمن التحول: لم يعد الخطاب الرئاسي قادرا على امتصاص الغضب، ولم تعد الإصلاحات قادرة على تهدئة الشارع.

إن ما نعيشه ليس مجرد تحليل بارد للأحداث، بل تجربة ملموسة تشبه السير وسط عاصفة. حين أكتب هذه السطور، أشعر وكأن فرنسا تتحرك فوق زلزال سياسي لا يهدأ، وأن أصوات المتظاهرين التي ستملأ الساحات يوم 10 و18 سبتمبر ليست مجرد شعارات، بل مؤشرات على بداية منعطف تاريخي قد يغيّر شكل الجمهورية الخامسة نفسها.

في رأيي الشخصي، السيناريوهات المقبلة لفرنسا مفتوحة على احتمالات عدة، كلها ثقيلة ومقلقة. أولها سيناريو الانتخابات المبكرة، حيث قد يضطر ماكرون تحت ضغط البرلمان والشارع إلى الدعوة لصناديق الاقتراع. ثانيها سيناريو الحكومة التكنوقراطية التي قد تفرض كحل وسط لتجاوز الانقسام السياسي، لكنها ستبقى بلا شرعية شعبية حقيقية. وثالثها، وهو الأخطر، سيناريو الانفجار الاجتماعي المفتوح، حيث تتحول الإضرابات إلى عصيان مدني شامل، وتنهار الثقة بشكل كامل في المؤسسات.

في تقديري الشخصي، فرنسا تدخل مرحلة انتقالية لا رجعة فيها. الشرخ بين الدولة والمجتمع أصبح أوسع من أن يرمم بخطاب أو بميزانية جديدة. نحن أمام بلد يبحث عن عقد اجتماعي جديد، وربما عن بداية نهاية الجمهورية الخامسة كما نعرفها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى