مغاربة العالم بين كرم الاستقبال و تضارب الأسعار: كيف نضمن حماية الجالية؟ (الملف)

أعدته :نجوى القاسمي/ ايمان اوكريش
مع كل صيف، تبدأ رحلة الشوق. حقائب تعد بعناية، وعيون تلمع بلهفة اللقاء، وأحلام ترافق المغاربة المقيمين بالخارج على متن الطائرات والسفن نحو الوطن. الصيف بالنسبة لمغاربة العالم ليس مجرد موسم عطلة، بل هو موسم العودة إلى الجذور، موسم معانقة الأم، وزيارة القبور، والجلوس في زوايا الطفولة التي لم تفقد رائحتها.
لكن وراء هذا الحنين العارم، تقف تحديات تثقل كاهلهم: أسعار السفر التي ترتفع كما لو أن الشوق أصبح سلعة، وخدمات تتضاعف تكلفتها كلما اقتربت مواعيد العودة.وفي ظل كل هذه الجهود المبذولة لتيسير عودة مغاربة العالم، تبرز مؤسسات متعددة تعنى بخدمتهم ومواكبتهم
أعلنت إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة عن سلسلة إجراءات جديدة ضمن عملية “مرحبا 2025″، بهدف تحسين ظروف الاستقبال وتسهيل العبور، في إطار النسخة الخامسة والعشرين التي تشرف عليها مؤسسة محمد الخامس للتضامن.
هذه الجهود تترجم من خلال تعزيز الفضاءات المخصصة لاستقبال الجالية، وتوسيع خدمات الدعم الاجتماعي والطبي، وتقديم تسهيلات جمركية غير مسبوقة.
لكن في ظل هذه التسهيلات الإدارية، يظل السؤال المؤرق: من يحمي مغاربة العالم من الاستنزاف المالي الذي يواجهونه كل صيف؟ فبين ارتفاع أسعار تذاكر السفر وغلاء تكاليف المعيشة، يجد العديد من أفراد الجالية أنفسهم تحت رحمة سوق يستغل عودتهم، في غياب آليات رقابة فعالة تضمن لهم معاملة منصفة في وطنهم.
جهود لوجستيكية واستقبال محكم
الاستعدادات لهذه النسخة من عملية “مرحبا” شملت هذه السنة فتح مركزين جديدين بكل من مطار العيون ومطار الداخلة، ليصل عدد نقاط الاستقبال داخل المغرب إلى 20 مركزا، إضافة إلى ستة مراكز بالخارج.
كما تم تعبئة 1455 شخصا من فرق الدعم والمواكبة الاجتماعية، بينهم 1158 مساعدا اجتماعيا وأكثر من 250 طبيبا وممرضا مع حشد فرق مؤسسة محمد الخامس ومجموعة من المتطوعين لضمان استقبال لائق وسلس.
وحرصت إدارة الجمارك على تخفيف القيود الجمركية من خلال تخفيض بنسبة 90% من الرسوم على السيارات المستعملة التي تعود ملكيتها لمغاربة مقيمين بالخارج يتجاوز سنهم 60 سنة، شريطة إثبات الإقامة لمدة عشر سنوات بالخارج، مع مرونة في قبول الوثائق البديلة لتيسير الاستفادة من هذا الإجراء..
مؤسسة الحسن الثاني.. جسر ثقافي مع الوطن
من جهة أخرى، تواصل مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج دورها في تدريس اللغة العربية والثقافة المغربية لأبناء الجالية في مختلف دول الاستقبال، خاصة بأوروبا الغربية، ضمن اتفاقيات رسمية تهدف إلى الحفاظ على الهوية المغربية للأجيال الصاعدة.
رغم كل هذه المجهودات المؤسساتية لتيسير عودة مغاربة العالم، يظل الوجه الآخر محط انتقادات واسعة. ولا يتوقف الأمر عند حدود النقل، بل يمتد إلى الأسعار المرتفعة في المحلات التجارية والأسواق والخدمات
من خلال تتبعنا لهذا الملف، أجرينا حوارا مع عائلة من مغاربة العالم قدمت إلى المغرب لقضاء عطلتها الصيفية بمدينة الرباط. وأثناء حديثهم تؤكد بشرى أن هذه الملاحظة لم تكن وليدة اليوم، بل تتكرر معهم كل صيف، إذ اعتادوا قضاء العطلة كل سنة في مدينة مغربية مختلفة، لكن المشهد نفسه يتكرر: أسعار ترتفع بشكل لافت فقط لأنهم يحملون صفة مغاربة العالم”. رغم فرحتهم بالعودة إلى الوطن وحرصهم على قضاء لحظات جميلة، إلا أن إحساسهم بالاستغلال التجاري يرافقهم من مدينة لأخرى
مؤسسة الحسن الثاني..التزام مستمر لخدمة مغاربة العالم
أكدت فتيحة أملوك، مديرة قطب الفن، الثقافة والتواصل بمؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج في تصريح خاص لـ”إعلام تيفي” ، أن المؤسسة تواكب عملية “مرحبا” عبر مركز استقبال يوجد بمقرها الرئيسي بالقنيطرة، يضم أطرا متخصصة في الشؤون القانونية، تسهر على استقبال مغاربة العالم وتقديم الدعم والمواكبة اللازمة طيلة فترة العملية.
وأوضحت أملوك أن هذا المركز يباشر عمله بالتزامن مع انطلاق عملية “مرحبا”، والتي تمتد من 10 يونيو إلى 15 شتنبر. ويستقبل المركز أفراد الجالية من الاثنين إلى الجمعة، من الساعة التاسعة صباحا إلى الرابعة مساء، لتقديم مختلف الخدمات القانونية والإدارية التي تهمهم.
ويعمل داخل المركز، إلى جانب أطر مؤسسة الحسن الثاني، ممثلون عن الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية، وكذا عن المديرية العامة للضرائب، مع توفير إمكانية الربط المباشر مع إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة عن بُعد. ويهدف هذا التنسيق المشترك إلى تسهيل التواصل مع الجالية، وتقديم استشارات قانونية وإدارية تناسب طبيعة كل ملف.
وأضافت أملوك أن المؤسسة حرصت أيضا على توفير قنوات للتواصل عن بعد، سواء من داخل المغرب أو من الخارج، عبر خطوط هاتفية وروابط إلكترونية خاصة، مما يسمح لأفراد الجالية بإرسال استفساراتهم ومتابعة ملفاتهم بشكل مرن وسريع.
وبخصوص طبيعة الخدمات التي تقدمها المؤسسة، أوضحت المسؤولة أن كل قطب داخل المؤسسة يشتغل وفق الفئات العمرية وحاجيات مغاربة العالم. فعلى سبيل المثال، يشتغل قطب الفن، الثقافة والتواصل مع الفنانين المغاربة المقيمين بالخارج، من خلال تنظيم معارض فنية ولقاءات ثقافية داخل المغرب، بالإضافة إلى تقديم كتب وإبداعات الفنانين المغاربة الذين غالبا ما يكونون غير معروفين داخل بلدهم الأم.
كما أشارت إلى أن المؤسسة تعمل على التعريف بالمبدعين المغاربة المقيمين بالخارج وربطهم بالوطن الأم، من خلال تنظيم لقاءات افتراضية عبر المركز الثقافي الرقمي للمؤسسة، الذي يحتضن جلسات مع فنانين ومثقفين مغاربة سواء كانوا معروفين أو مغمورين.
إلى جانب ذلك، تتولى المؤسسة مهمة التربية والتنوع الثقافي، من خلال تدريس اللغة العربية لأبناء الجالية طيلة السنة الدراسية في بلدان المهجر، مع تنظيم أنشطة التأطير الروحي عبر إرسال بعثات دينية خلال شهر رمضان.
وأكدت أملوك أن المؤسسة تنظم أيضا المقام الثقافي الصيفي، وهو برنامج سنوي يفتح أبوابه خلال العطلة الصيفية، حيث ستنظم هذه السنة الدورة السادسة والعشرين التي ستستقبل حوالي 960 طفلاً من أبناء مغاربة العالم.
ومن بين الأقطاب المهمة أيضا، ذكرت أملوك قطب التعاون والشراكة، الذي ينسق مع الجمعيات المغربية بالخارج، ويقدم لها الدعم والمواكبة لتنفيذ مشاريع تخدم الفئات الهشة أو تساهم في تنظيم أنشطة ثقافية وفنية لفائدة الجالية.
وفي سياق متصل، أبرزت أملوك أهمية قطب المساعدة القانونية، الذي يتلقى عددا كبيرا من الشكايات من مغاربة العالم بخصوص قضاياهم القانونية داخل المغرب. ويعمل هذا القطب على توفير مواكبة ميدانية عبر أطر قانونية مؤهلة، تقدم استشارات وتساعد على إيجاد حلول لمشاكلهم القضائية والإدارية المختلفة.
واختتمت أملوك حديثها بالتأكيد على أن مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج تشتغل على مدار السنة، في تنسيق دائم مع مختلف المؤسسات الوطنية، من أجل خدمة مغاربة العالم في جميع المجالات، سواء الثقافية أو القانونية أو الاجتماعي
الجمعية الدولية للمهاجر: شريك فاعل في إنجاح “مرحبا 2025” ودعم مغاربة العالم
قال موحى ونزة، رئيس الجمعية الدولية للمهاجر، في تصريح خص به موقع اعلام تيفي إن مؤسسة محمد الخامس للتضامن أطلقت منذ عام 2001 برنامجا فريدا من نوعه تحت مسمى عملية مرحبا، الذي يهدف إلى مواكبة التدفق المتزايد للمغاربة المقيمين بالخارج خلال عودتهم إلى أرض الوطن في فترة الصيف.
وأشار موحى ونزة إلى أن عملية مرحبا لعام 2025 شهدت رفعا كبيرا في درجة التأهب، حيث شاركت جميع الأطراف المعنية، سواء من القطاعين العام والخاص، في تنسيق جماعي لمنهجية تدخل شاملة. وتم اتخاذ تدابير خاصة لتحسين ظروف استقبال المسافرين وتسهيل عبورهم، مع تقديم دعم خاص للأشخاص في وضعية هشاشة. وأكد أن المؤسسة وفرت للجالية منصة متعددة القنوات للاستعلام والاستماع إلى حاجياتهم.
وبخصوص دور الجمعية الدولية للمهاجر، أوضح المتحدث أنها تعمل في مجالات متعددة تهدف إلى الدفاع عن حقوق المغاربة المقيمين بالخارج، بالتنسيق مع القطاعات العمومية والبعثات الدبلوماسية والقنصلية المغربية.
وتشمل مهامها الإرشاد القانوني، وحماية مصالح وممتلكات المهاجرين، وضمان سلامة أسرهم داخل المغرب وخارجه، إلى جانب تسهيل عملية العبور وتقديم النصائح حول الإجراءات والاحتياطات اللازمة لتفادي النزاعات.
كما تنظم الجمعية أنشطة تربوية وثقافية وفنية ورياضية متنوعة، بالإضافة إلى محاضرات وندوات ومهرجانات تهدف إلى تعزيز التواصل مع الجالية. وتتابع شكاياتهم ومساطرهم القضائية بالتنسيق مع وزارة العدل والنيابة العامة ووزارة الخارجية، سواء داخل المحاكم أو الإدارات العمومية.
وأضاف موحى ونزة أن الجمعية تعمل كذلك على دعم الشكايات الإدارية، والتنسيق مع مختلف السلطات المحلية والمؤسسات العمومية لإيجاد حلول لمشاكل المهاجرين، كما تتابع أوضاع السجناء المغاربة بالخارج وتعمل على تفعيل الاتفاقيات الدولية في مجال الهجرة.
وتساهم الجمعية في محاربة الهجرة غير الشرعية، ودعم المستثمرين من أبناء الجالية في مشاريعهم الاستثمارية، وتشجيع الشباب على الاندماج في سوق الشغل، فضلاً عن دعم المبادرات التنموية والمشاريع المدرة للدخل.
خالد أشيبان: مساهمة مغاربة العالم تنعش الاقتصاد الوطني
أكد الخبير الاقتصادي خالد أشيبان في تصريح لـ”إعلام تيفي” أن مساهمة مغاربة العالم في الاقتصاد الوطني تتجسد عبر محورين رئيسيين، يتمثل الأول في تأثير عملية “مرحبا” وزياراتهم الموسمية إلى المغرب، أما الثاني فيتعلق بالتحويلات المالية السنوية التي يرسلونها إلى ذويهم داخل الوطن.
وأوضح أشيبان أن هذه التحويلات المالية تلعب دورا أساسيا في تعزيز القدرة الشرائية للأسر المغربية، كما يوجه جزء كبير منها نحو الاستثمار، لا سيما في القطاع العقاري، حيث يرى العديد من أفراد الجالية أن الاستثمار في العقار أو في مشاريع محددة يشكل فرصة لتحقيق أرباح مستدامة ويسهم في تنمية بلدهم الأم.
وفيما يخص عملية “مرحبا”،
أشار الخبير الاقتصادي إلى أن تأثيرها ملموس ومباشر على الاقتصاد المحلي، إذ يسهم مغاربة العالم خلال فترة عودتهم الصيفية في تنشيط مختلف الأنشطة الاقتصادية، خاصة الخدمات السياحية. ويحتسبون كسياح داخليين في الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة السياحة.
كما يفضل العديد منهم التنقل داخل المغرب، لا سيما إلى المدن الساحلية مثل المضيق والسعيدية وغيرها، مما يعزز النشاط الاقتصادي لهذه المناطق التي تعتمد بشكل كبير على الموسم السياحي الصيفي.
وأشار أشيبان إلى أن تدفق مغاربة العالم خلال مواسم العطل يسهم في رفع القدرة الشرائية للسكان المحليين، الذين يستفيدون من النشاط الاقتصادي المتزايد، إضافة إلى دعم السياحة الوطنية بشكل عام.
من جهة أخرى، أكد الخبير أن العملة الصعبة التي يحولها أفراد الجالية إلى المغرب تساهم بشكل كبير في دعم الاحتياط النقدي الوطني، وتشكل مصدر تمويل هام للمستثمرين، ما يعزز من فرص خلق فرص الشغل ويزيد من دينامية الاقتصاد الوطني.
وختم أشيبان بالتأكيد على أهمية تيسير الإجراءات والمساطر القانونية خلال زيارات مغاربة العالم، خصوصا أن زياراتهم في الأساس هي لزيارة عائلاتهم، وأن تخفيف العقبات سيعزز من مساهمتهم في النمو الاقتصادي الوطني.
يبقى مغاربة العالم ركيزة أساسية في معادلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمغرب، ليس فقط عبر التحويلات المالية التي تشكل دعامة حقيقية للاقتصاد الوطني، ولكن أيضا من خلال ارتباطهم الوثيق بوطنهم الأم وزياراتهم المستمرة خلال موسم الصيف.
وبينما تتكاثف جهود المؤسسات لتيسير ظروف الاستقبال وتوفير الدعم القانوني والإداري والثقافي، تظل الجالية المغربية في مواجهة إشكاليات واقعية لا تقل أهمية، على رأسها الغلاء الموسمي واستغلال بعض القطاعات لحاجتهم الماسة إلى الخدمات خلال فترات الذروة.
هذه المفارقة بين كرم الاستقبال وصعوبة التكاليف تطرح بإلحاح ان الوضعية تتطلب مراجعة شاملة للسياسات المواكبة، ليس فقط على مستوى الخدمات المؤسساتية، ولكن على مستوى ضبط الأسواق وحماية المستهلك المغربي، سواء كان مقيما أو مقيما بالخارج. فمغاربة العالم لا يحتاجون فقط إلى بوابات مفتوحة، بل إلى وطن يحتضنهم بكرامة وعدالة اقتصادية.