
حسين العياشي
قدّمت لورا بيل، الممثلة الجديدة لمنظمة اليونيسف بالمغرب، مداخلة وسمت اليوم الدراسي حول “الحرية المحروسة”، المنظم من طرف وزارة الشباب والثقافة والاتصال، بجرعة إضافية من الواقعية والأمل معاً. لم تتوقف عند تشخيص المنظومة، بل دفعت النقاش إلى مربّع التنفيذ، مؤكدة أنّ حماية الطفل لا تُختزل في نصوص جميلة، بل تُبنى عبر سلسلة مترابطة من القرارات والإجراءات الميدانية التي تُبقي الطفل داخل نسيجه الأسري والتربوي، وتحمي الضحايا، وتُعيد الاعتبار لفكرة العدالة كرافعة إدماج لا كآلية إقصاء.
أشارت بيل إلى أن نظام “الحرية المحروسة” يمكن أن يتحول من إجراء شكلي إلى مسار تربوي–اجتماعي فعّال متى وُضع الطفل في قلب القرار، ومتى انتقلنا من تدبير القضايا بجداول زمنية متشنّجة إلى إدارةٍ دقيقة للحالات تراعي السنّ والسياق والحاجات الفردية. فجوهر العدالة الصديقة للأطفال—كما شدّدت—هو قدرتها على القطع مع دوامة الوصم وإعادة العود، عبر مواكبةٍ شخصية تتشارك فيها الأسرة والمدرسة والجمعيات والمهنيون، وتُسندها بيانات موثوقة وآليات تقييم شفافة.
وانطلقت ممثلة اليونيسف من الاعتراف بالثغرات التي تعيق النجاعة: بطء الإحالة، تفاوت جودة المواكبة بين الجهات، وتشتّت المرجعيات. لكنها وضعت، في المقابل، معالم مسار عملي يقوم على ثلاث حلقات متلازمة: تنسيق مؤسسي محكم يُقصر المسافة بين القضاء والقطاعات الاجتماعية والصحية والتربوية، شبكة وطنية من الوسطاء والمربين تعمل داخل الأحياء والمدارس وتمنح التدخل طابع القرب والدوام، ثم منصة رقمية للتتبّع تُسجِّل مسار الطفل منذ أول تواصل مع المنظومة إلى لحظة الإدماج، مع احترام صارم لحماية المعطيات الشخصية وتصنيفٍ ذكي للبيانات بحسب السن والنوع والإعاقة والجغرافيا.
وأكدت بيل أنّ البدائل الواقعية للعقوبات السالبة للحرية ليست ترفاً نظرياً، بل شرطاً لازماً لنجاح “الحرية المحروسة”: خطط مصاحبة فردية تُوقَّع مع الأسرة والمدرسة وتُراجع دورياً، مسارات للعدالة التصالحية تُعطي مكاناً مستحقاً للضحايا وجبر الضرر، وحلول تربوية داخل المجتمع تُعلِّم المسؤولية والمواطنة بدلاً من القطيعة والعزل. وفي هذا السياق، دعت إلى الاستثمار الجاد في التكوين المستمر للأطر القضائية والاجتماعية والمهنيين الميدانيين، حتى تتوحّد اللغة المهنية وترتفع جودة التدخل أينما كان الطفل، مع إتاحة دلائل عمل مرجعية مستندة إلى الاتفاقيات والمعايير الدولية ذات الصلة.
ولم تُغفل ممثلة اليونيسف شرط التمويل المستدام، فشدّدت على أن أي إصلاح بلا موارد واضحة سيظلّ وعداً مؤجلاً. واقترحت، في هذا المنحى، تثبيت اعتمادات ميزانياتية مخصّصة لحماية الطفولة، وتفعيل شراكات مؤسساتية تجمع القطاعات الحكومية والجماعات الترابية والجامعة والمجتمع المدني وشركاء التنمية، بما يتيح إطلاق مشاريع نموذجية قابلة للقياس والتوسيع تدريجياً وفق نتائج دقيقة. كما دعت إلى ميثاق أخلاقي للتواصل والإعلام يحمي صورة الطفل، ويستبدل التنميط بثقافة الوقاية والمواكبة وحق الطفل في الخصوصية والكرامة.
وربطت بيل نجاح الإصلاح بمؤشرات ملموسة لا بشعارات عامة: تقليص زمن الإحالة، رفع معدلات العودة إلى التمدرس، تحسين نسب عدم العود، وقياس رضى الضحايا والأسر والمجتمع عن نجاعة التدخلات. هذه المؤشرات—كما قالت—لا تُؤخذ كأرقام باردة، بل تُقرأ كنبض يومي لمدى قرب العدالة من الطفل. وإذ شدّدت على أهمية الاسترشاد بالمرجعيات الأممية في عدالة الأحداث والبدائل غير السالبة للحرية، أكدت أن المغرب يمتلك رصيداً مؤسساتياً وبشرياً يؤهله لقيادة تجربة رائدة إقليمياً متى جرى تثبيت حلقات التنسيق وبناء القدرات وتعميم أدوات القياس.
وختمت مداخلتها بدعوة عملية إلى تحويل خلاصات اليوم الدراسي إلى خارطة طريق محدّدة المراحل والآجال، تُعلن للعموم وتُراجع دورياً بشفافية، مع إحداث نافذة دائمة للإصغاء إلى الأطفال أنفسهم—بناتاً وبنين، بمن فيهم الأطفال في وضعية هشاشة أو إعاقة—حتى تكون السياسات انعكاساً لأصواتهم لا نيابةً عنهم. فالمطلوب، كما خلصت، عدالة قريبة ومتأهّبة، تتكئ على المعرفة والبيانات، وتؤمن بأن كل فرصة إنصات هي بذرة إصلاح، وأن “الحرية المحروسة” حين تُصاغ كجسرٍ للتأهيل والاندماج تُعيد للطفل توازنه وكرامته، وتُعيد للمجتمع ثقته في منظومة تحمي وتُصلح بقدر ما تُحاسب وتردع.





