أصيلة تفتتح مهرجانها بطَعم الفراق.. وهبي يستحضر آخر ليلة مع بن عيسى

فاطمة الزهراء ايت ناصر
“كنتَ مسيحيا في السياسة، تدير خدّك لمن يلطم، وتتأمل دون حديث، وإذا أردتَ الحديث تأخذ باليد وتطرح الأسئلة تلو الأسئلة بعيدا…”، هكذا افتتح عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، كلمته وهو ينعى محمد بن عيسى، مؤسس موسم أصيلة الثقافي الدولي.
بدا وهبي متأثرا إلى حدّ البكاء، وهو يستعيد تلك الليلة الأخيرة التي جمعتهما قبل أسبوع من الرحيل، في جلسة امتدت لساعات مع نبيل بنعبد الله وآخرين. جلسة غلبت عليها النقاشات الفكرية والسياسية، لكن وهبي احتفظ منها بصورة واحدة، رجل يتسامح حتى في السياسة، ويصغي أكثر مما يتحدث، وحين يتحدث يطرح الأسئلة كمن يحفر في المعنى.
بكلمات مؤثرة، كشف وزير العدل عن علاقة خاصة ربطته بالراحل، عن حوارات إنسانية لم تكتمل، وعن “قصة القطار” التي ظلّ محمد بن عيسى يرددها حلما؛ أن تصل أصيلة إلى العالم عبر خط سككي يربطها، تماما كما ربط هو بين القارات والثقافات. لكن الحلم لم يتحقق، وبقي عالقا مثل غصة، تماما كغيابه.
هذا الغياب هو الذي طبع افتتاح الدورة السادسة والأربعين لموسم أصيلة الثقافي. لأول مرة منذ سبعة وأربعين عاما، لا يعتلي مؤسِّس الموسم منصته. في مكتبة الأمير بندر بن سلطان، حيث جرى الافتتاح، اختارت مؤسسة منتدى أصيلة أن يكون الاستهلال ندوة تكريمية بعنوان: “محمد بن عيسى: رجل الدولة وأيقونة الثقافة”.
الحضور كان استثنائيا، شارك فيه قادة ورؤساء ووزراء من ثلاث قارات، من بينهم رئيس السنغال السابق، ومستشار ملك البحرين، ووزراء خارجية سابقون من دول عديدة بينها إسبانيا، مصر، اليمن، السنغال، والبرتغال.
الكلمات التي ألقيت لم تكن بروتوكولية، بل شهادات دامعة. الأمير بندر بن سلطان، عبر صوت عبد الإله التهاني، استعاد سنوات العمل إلى جانب الراحل في واشنطن، وكيف جمعهما الدفاع عن القضايا العربية والإسلامية، وحلم تحويل أصيلة إلى منارة ثقافية بتوجيه من الملكين الراحلين فهد والحسن الثاني.
مستشار ملك البحرين، نبيل يعقوب الحمر، استحضر نصف قرن من الصداقة مع محمد بن عيسى، منذ بدايات السبعينيات، وقال بأسى: “فقدان الصديق هو فقدان جزء من الذاكرة، وقطعة من الروح وأحاديث لم تكتمل”. شهادته ذكّرت بجانب آخر من شخصية الرجل: جامع للمثقفين، صانع للجسور، وداعية للتمازج الثقافي.
ومن جانبه، وصف محمد الحجوي، الأمين العام للحكومة، الراحل بأنه “شخصية لا تعوّض”، رجل دولة نذر حياته للثقافة والدبلوماسية وخدمة الوطن. أكد أن بن عيسى ارتبط اسمه إلى الأبد بمدينة أصيلة، وحوّلها إلى قبلة للفكر والسياسة والإبداع، ومنصة لأسئلة إفريقيا والعالم العربي، ومختبرا لحوار الحضارات.
رحل محمد بن عيسى، وبقيت أصيلة شاهدة على أثره. رحل الدبلوماسي والمثقف، الوزير والسفير، وبقي الموسم الذي أسّسه يُفتتح هذه السنة بطعم مختلف؛ بطَعم الفراق.





