أوروبا… القارة التي لم تعد تشبه نفسها

بشرى عطوشي 

لم يعد المشهد الأوروبي كما كان قبل سنوات قليلة. التغييرات التي كانت تتسلل ببطء بدأت اليوم تظهر بوضوح على السطح: تراجع في مستوى المعيشة، ضرائب تتصاعد كخط بياني لا ينخفض، توتر اجتماعي يتكثف مع كل أزمة جديدة، وخطاب سياسي يتجه أكثر نحو الانغلاق والخوف من الآخر. أوروبا التي كانت نموذجًا للاستقرار والرفاه، أصبحت تعيش مرحلة مراجعة ذاتية ثقيلة، مليئة بالتناقضات والقلق.

تراجع الرفاه وارتفاع الضغوط الاقتصادية

قبل خمس سنوات فقط، كانت دول أوروبا الشمالية والوسطى تُعتبر الأكثر توازنًا في العالم اقتصاديًا. لكن الأزمة الطاقية، التضخم، تباطؤ الاقتصاد العالمي، والحرب في شرق القارة كلها عوامل جعلت المواطن يشعر بأن العقد الاجتماعي القديم لم يعد يعمل.

الضرائب ارتفعت في عدة دول لتعويض الإنفاق العام، وأسعار السكن والطاقة والنقل أصبحت عبئًا يوميًا. توسّع الفوارق الطبقية، وتراجع قدرة الطبقات الوسطى على الادخار أو الاستقرار، أصبح ملموسًا حتى في الدول التي كانت رمزًا للرخاء مثل السويد وألمانيا وهولندا.

المهاجرون… عمود لا يُعترف به

ورغم هذا التراجع، فإن أوروبا تستمر في الاعتماد على من تحاول بعض تياراتها السياسية إقصاءهم. المهاجرون هم من يشغلون القطاعات التي يقوم عليها الاقتصاد الحقيقي:
من تنظيف المدن إلى العناية الصحية، من البناء إلى إصلاح الطرق، من المصانع إلى المزارع.
هم الذين يعملون في أصعب المهن وأكثرها استنزافًا—المهن التي لا يقبل عليها المواطن الأوروبي العادي.

لكن هذا الجهد الضخم لا يقابله تقدير اجتماعي. بل في كثير من الأحيان يُقابل بارتفاع في موجة القلق من “تغيير الهوية”، حتى في دول تعتمد بالكامل على اليد العاملة المهاجرة لسد العجز الديموغرافي والاقتصادي.

معركة القيم والهوية

في مدن أوروبية كانت تعرف بالانسجام، تتزايد اليوم أسئلة الهوية والانتماء:
اللغات تتعدد، الثقافات تتجاور دون اندماج حقيقي، والجماعات السياسية اليمينية تستغل هذه الفجوات لتعزيز خطاب الخوف.

السويد مثال واضح: بلد كان يُنظر إليه كواحة للسلام الاجتماعي أصبح يعيش تغيرات سريعة تجعل حتى المواطن الأصلي يشعر بأنه غريب. ليس بسبب المهاجرين فقط، بل بسبب توتر اقتصادي وسياسي يفقد الناس إحساسهم بالأمان الذي كانوا يعتقدون أنه ثابت.

اختلالات الاتفاقيات الدولية

الاتفاقيات الأوروبية الخاصة بالهجرة واللجوء لم تعد تعمل كما صُممت.
دول تُغلق حدودها، وأخرى تُرحّل، وبعضها يُعيد النظر في منظومة الحماية القانونية نفسها.
وفي الخلفية، هناك حاجة متزايدة لليد العاملة المهاجرة لسد النقص الهيكلي في القوى العاملة.

هذا التناقض يجعل المهاجرين في وضع هش: مطلوبون اقتصاديًا، ومرغوب التخلص منهم سياسيًا، ومحاصرون قانونيًا.

أوروبا في مفترق طرق

القارة اليوم ليست على وشك الانهيار، لكنها على وشك تغيير عميق لا تزال ملامحه ضبابية.
المعادلة القديمة—رفاه اقتصادي + استقرار اجتماعي + انفتاح ثقافي—لم تعد صالحة كما كانت.
والملف ليس ملفًا سياسيًا فحسب، بل صراع حول مستقبل القارة نفسها:
هل ستبقى أوروبا نموذجًا للتعددية المنظمة والعيش المشترك؟
أم ستنزلق أكثر نحو الانغلاق، ورفع الأسوار، وتضييق مساحة الاختلاف؟

ما يحدث ليس أزمة عابرة؛ إنه إعادة تشكيل بطيئة ومؤلمة لقارة كانت تعتقد أنها تجاوزت كل هذا منذ عقود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى