إعفاء ضريبي يساوي ميزانية وزارة.. من المستفيد من “الوقود المعفى”؟

حسين العياشي

ليست الإعفاءات الضريبية بنوداً تقنية تُساق في ذيل القوانين، بل مرآة صافية لأولويات الدولة ومن يُمسك فعلاً بمفاتيح المال العام. وفي مشروع قانون المالية لسنة 2026 يبرز رقم فلكي: إعفاء من الضريبة على القيمة المضافة بقيمة 5.571 مليار درهم (557 مليار سنتيم) على عمليات بيع زيوت النفط أو الصخور النفطية، خاماً كانت أم مُصفّاة. رقمٌ كهذا لا يمرّ مرور الكرام؛ فهو يستدعي قراءةً متأنية تُعيد ترتيب الأسئلة قبل الأجوبة.

تبدأ الحكاية بخيطٍ زمني يكشف منطقاً داخلياً. في دجنبر 2015 لمح المدير السابق للخطوط الملكية المغربية، إدريس بنهيمة، في حوار صحافي، إلى أنّ مجموعة «أفريقيا» تُمسك بزمام استيراد وتخزين الكيروسين المخصّص للطائرات، وهو ما انعكس ـ وفق تصريحه حينها ـ ارتفاعاً في سعر هذه المادة بنحو 30% مقارنة بمستواه في النصف الثاني من نونبر 2015، أي قبيل التحرير الكامل للسوق. وبعد أسابيع، في فبراير 2016، جرى إعفاء بنهيمة وتعيين عبد الحميد عدو مديراً عاماً لـ«La RAM»؛ خطوةٌ تدخل في صلاحيات التعيين والإعفاء، لكنها تكتسب دلالة حين تُقرأ ضمن السياق وما تلاه من قرارات.

في يوليوز 2023 وُقّعت اتفاقية استراتيجية لمضاعفة أسطول «الخطوط الملكية المغربية» من 50 إلى 200 طائرة بحلول 2034، بميزانية تناهز 250 مليار درهم. وبعدها بنحو عامين، في يوليوز 2025، تقرّر توسيع الطاقة الاستيعابية لأبرز مطارات البلاد بميزانية إضافية قدرها 38 مليار درهم. للوهلة الأولى يبدو المشهد منسجماً: أسطول أكبر يستدعي مطارات أوسع. غير أنّ الاقتصاد لا يُقرأ بالعين المجرّدة وحدها؛ فالأرقام تحمل طبقاتٍ أخرى من المعنى حين تُوضع جنباً إلى جنب.

بين 2019 و2023 عاشت «لارام» سنوات مالية صعبة. وفي صناعة الطيران يشكّل الوقود قرابة ثلث كلفة التشغيل. وحين تكون الشركة في وضعية خسارة، تُساوي كلفة الرحلة في الحد الأدنى ثمن التذكرة تقريباً، ما يعني أنّ نحو ثلث ما يدفعه الراكب يذهب مباشرةً للوقود. وإذا صحّ أنّ فاعلاً بعينه يهيمن على سوق الكيروسين، فإن مضاعفة الأسطول وتوسعة المطارات لا تعني فقط المزيد من المقاعد والوجهات، بل تعني أيضاً ـ وبشكل مباشر ـ تضخماً موازياً في أحجام الكيروسين المُقتناة، ومن ثمّ في معاملات وهوامش أرباح من يملك مفاتيح هذا السوق.

هنا يغدو الإعفاء الضريبي على المنتجات النفطية، كما ورد في مشروع قانون المالية 2026، حلقةً مكمِّلة في السلسلة لا قراراً محايداً معزولاً. إذ يُدرج ضمن منظومة عناوين جذّابة: تنظيم المونديال، مضاعفة عدد السياح في أفق 2030، مدّ خطوط القطارات الفائقة السرعة، وتحقيق «السيادة الطاقية». مشاريع طموحة لا شك، لكنها قد تتحول، إذا غابت الحوكمة والشفافية وتكافؤ الفرص، إلى قنوات «جزية داخلية» تُحوَّل عبرها أموال دافعي الضرائب إلى قلةٍ تتحكّم في مفاصل سلاسل التوريد.

المطلوب ليس تجريم الاستثمار ولا التشكيك في الحاجة إلى توسيع البنية التحتية؛ فالاقتصاد الوطني بحاجةٍ ماسّة إليهما. المطلوب أن تُطرح على صانعي القرار أسئلة بديهية: من المستفيد الأكبر من الإعفاءات؟ هل أُنجز تقييمٌ مستقلّ لتأثيرها على الأسعار والتنافسية وجودة الخدمات؟ ما الضمانات العملية لمنع تعارض المصالح حين تتقاطع سلطة القرار مع القوة السوقية؟ وكيف تُربط الحوافز العمومية بمؤشرات مردودية قابلة للقياس، مثل خفض كلفة التذكرة على المسافر، وتحسين جودة الربط الجوي، وتوطين سلاسل القيمة داخل البلاد؟

من حق المواطنين أن يروا في كل درهم مُعفى أو مُنفق عائداً ملموساً عليهم: خدمةً أيسر، رحلةً أرخص، منافسةً أعدل، واستثماراً يوسّع القاعدة بدل أن يُثري القمّة. ومن واجب الدولة أن تُحسن ترتيب الأولويات وتشرح للرأي العام ـ بالأرقام لا بالشعارات ـ لماذا تُمنح الإعفاءات لهذا المنحى دون غيره، وكيف تُسهم في تحقيق الصالح العام لا في تكريس ريعٍ مُقنّع. عندها فقط يصبح الحديث عن مضاعفة الطائرات وتوسعة المطارات وتخفيض الضرائب جزءاً من قصة نموّ متوازن، لا فصولاً في سردية تحويل المال العام إلى أرباحٍ مضمونةٍ لقلّةٍ محظوظة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى