إعفاء من الرسوم أم إدانة صامتة؟ قرارات التعليم العالي تكشف هشاشة الأجور

حسين العياشي

جاء انعقاد ندوة رؤساء الجامعات العمومية بجامعة محمد الخامس بالرباط، بطلب من وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، في سياق لم يعد من الممكن فيه الاكتفاء بالبلاغات التبريرية، بعدما فجّر قرار فرض رسوم على الموظفين والأجراء المستفيدين من التكوين بالتوقيت الميسّر موجة انتقادات، كشفت أعطابًا أعمق من مجرد إشكال مالي عابر. فالاجتماع، الذي حضره الكاتب العام للوزارة وعدد من المديرين المركزيين، بدا في جوهره محاولة لاحتواء غضب متصاعد، أكثر منه نقاشًا هادئًا حول تطوير العرض التكويني.

اللافت في مخرجات هذه الندوة ليس فقط التراجع الجزئي عن قرار الرسوم، بل الدلالة السياسية والاجتماعية لما تم الإعلان عنه. حين تقرر الوزارة إعفاء الموظفين والأجراء الذين لا يتجاوز دخلهم الشهري الحد الأدنى للأجور من رسوم التسجيل، ابتداءً من السنة الجامعية الجارية، فإنها، من حيث لا تريد، تعترف بواقع صادم: داخل الإدارة العمومية، وضمن فئات يفترض أنها محمية قانونيًا، يوجد موظفون وأجراء يشتغلون بأجور لا تتجاوز الحد الأدنى، وربما تقل عنه فعليًا إذا ما احتُسبت كلفة المعيشة.

هذا الاعتراف الضمني يفتح أسئلة محرجة تتجاوز موضوع التكوين بالتوقيت الميسّر. كيف يمكن الحديث عن إصلاح التعليم العالي، أو تشجيع التعلم مدى الحياة، في ظل واقع اجتماعي يجعل موظفًا عموميًا عاجزًا عن أداء رسوم تكوين جامعي؟ وكيف تستقيم سياسات عمومية تُحمّل الأفراد كلفة التكوين، بينما تعجز الدولة عن ضمان حد أدنى من الكرامة لفئات تشتغل داخل مؤسساتها؟

أما قرار توحيد رسوم التسجيل على الصعيد الوطني، فرغم وجاهته من حيث المبدأ، فإنه يكشف بدوره عن ارتباك في تدبير هذا الملف. فالتفاوت الكبير بين الجامعات لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة غياب رؤية وطنية واضحة، وترك المجال لاجتهادات محلية حوّلت التكوين بالتوقيت الميسّر إلى مصدر تمويل أكثر منه أداة للترقية الاجتماعية والمهنية. وتوحيد الرسوم اليوم، بعد كل هذا الجدل، يبدو أقرب إلى تصحيح متأخر لخلل بنيوي، لا إلى إصلاح استباقي مدروس.

الندوة شددت، كعادتها، على أهمية التكوين بالتوقيت الميسّر في توسيع فرص الولوج إلى التعليم العالي ودعم التعلم مدى الحياة. غير أن هذا الخطاب، رغم تكراره، يصطدم بواقع تناقضي: كيف يمكن الترويج للتكوين المستمر، في الوقت الذي يُفترض فيه أن يدفع الموظف من أجر هزيل كلفة تطوير كفاءاته، بدل أن يُعتبر ذلك استثمارًا عموميًا في الرأسمال البشري؟

إن القرارات المعلنة، وإن خففت جزئيًا من حدة الانتقادات، لا تُخفي جوهر الإشكال، بل تؤكده. فالمسألة لم تعد مرتبطة فقط برسوم تسجيل أو بإجراءات تنظيمية، بل بسؤال اجتماعي عميق: أي نموذج للتعليم العالي نريده؟ وأي موقع نخصصه للموظف والأجير في سياسات التكوين؟ وهل يعقل أن يكون التكوين حقًا نظريًا، بينما يُمارس في الواقع كامتياز لا يقدر عليه إلا من يملك فائضًا ماليًا؟

في المحصلة، قد تُحسب للوزارة خطوة التراجع عن جزء من القرار، لكنها في المقابل كشفت، دون أن تقصد، عن هشاشة اجتماعية داخل جسم الوظيفة العمومية نفسها. وهو اعتراف ثقيل، لا ينبغي أن يُطوى في بلاغ إداري، بل يستدعي نقاشًا وطنيًا صريحًا حول الأجور، والعدالة الاجتماعية، ودور الدولة في تمكين مواطنيها، لا تحميلهم كلفة إصلاحات يفترض أنها وُجدت من أجلهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى