
فؤاد يعقوبي*
*مختص في علم النفس الإجتماعي في السياق المغربي
تشهد الساحة السياسية المغربية مرحلة دقيقة تتقاطع فيها مطالب اجتماعية ملحة بمحاربة الفساد وتجويد خدمات الصحة والتعليم، مع سلوك سياسي مربك يكشف عن أزمة عميقة داخل البنية الحزبية. ففي خضم هذه العاصفة التي يرفع فيها الشارع سقف انتظاراته، اختارت بعض الأحزاب أن تتضامن مع بعضها لا دفاعا عن الديمقراطية أو حماية للصالح العام، بل التماسا للحماية من موجة المساءلة التي بدأت تهدد المصالح المتبادلة. هذا التضامن، الذي يبدو في ظاهره اصطفافا سياسيا بريئا، ليس سوى رد فعل دفاعي يعكس خوفا جماعيا من فقدان الامتيازات التي راكمها الفاعلون الحزبيون لسنوات، بعيدا عن منطق المساءلة والشفافية.
لقد انكشف القناع، وسقطت الإدعاءات التي كانوا يسوقون لها لسنوات كعنوان للانضباط السياسي. ومع ضغط المطالب الاجتماعية وارتفاع صوت الشارع، بدأت بعض القيادات الحزبية تُظهر سلوكا أشبه بالتمرد على الدولة، محاولة تحوير النقاش من جوهره الحقيقي: محاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية، إلى مزاعم تضييق أو استهداف سياسي. هذا التحول لا يعكس قوة هذه الأحزاب، بل حالة ارتباك نفسي اجتماعي يمكن تفسيرها عبر آليات معروفة،أبرزها آلية التهديد للمكانة، حيث تشعر النخب السياسية بأن مواقعها مهددة فتلتف حول بعضها لحماية الذات الجماعية. كما تلجأ هذه النخب إلى الإسقاط، فبدل مواجهة مسؤولياتها، تنقل التهمة إلى الخارج، متهمة الدولة بالتدخل أو محاولة إضعاف الأحزاب، في حين أن الأزمة الحقيقية تكمن في عجزها عن تجديد مشروعها السياسي أو الاستجابة لمطالب المجتمع.
إن ما يجري اليوم يعكس نهاية مرحلة كان فيها الخطاب السياسي يقوم على محاور الولاء الشكلي والمواقف الجاهزة، وبداية مرحلة جديدة عنوانها الوعي الشعبي وتنامي الدعوة إلى مساءلة فعلية. فالدولة تسعى إلى تنزيل إصلاحات مركزية، خاصة في الصحة والتعليم، بينما تحاول بعض الأحزاب تحويل هذا الزخم الإصلاحي إلى صراع سياسي لتجنب مواجهة مسؤوليتها في تعطيل التغيير. هذا السلوك يكشف أن جزء مهما من الطبقة السياسية لا يزال حبيس الحسابات الضيقة، غير قادر على قراءة التحولات الاجتماعية ولا مستوعب لارتفاع منسوب الوعي لدى المواطن.
إن بوادر التمرد على الدولة التي تظهر اليوم ليست تعبيرا عن قوة سياسية، بل عن خوف عميق من المستقبل، ومن مجتمع لم يعد يقبل الخطاب الاستهلاكي ولا التبريرات الجاهزة. لقد أصبح المواطن أكثر وعيا بالتناقضات، وأكثر قدرة على كشف تكتيكات الالتفاف، وهو ما يجعل من الصعب إعادة إنتاج نفس الأساليب التي كانت سائدة لعقود. إن اللحظة الراهنة لحظة مفصلية، لأنها تكشف الصراع الحقيقي بين من يريد الإصلاح فعليا، ومن يرى الإصلاح تهديدا لمصالحه.
إن ما يحدث اليوم ليس أزمة عابرة، بل تحول بنيوي في الثقافة السياسية المغربية. لقد تقوى الوعي الاجتماعي، وبرزت إرادة مجتمعية لا لبس فيها للدفاع عن الحق في تعليم وصحة وخدمات عمومية ذات جودة، ولرفض الفساد مهما كانت واجهته أو شعاراته. ومع سقوط الأقنعة، بات واضحا أن المستقبل سيكون للأحزاب القادرة على بناء مشروع حقيقي يخاطب المجتمع، لا الأحزاب التي تكتفي بالدفاع عن مواقعها. إنها بداية مرحلة جديدة يعاد فيها تعريف السياسة بوصفها التزاما ومسؤولية، لا وسيلة للمناورة والتهرب.





