الأدوية في المغرب.. أسعارٌ تتحكم فيها المصالح لا الضوابط

حسين العياشي

لم يكن تصريح الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، فوزي لقجع، حين تحدّث عن السعي لضبط أثمنة الدواء لتبلغ مستويات “معقولة”، مجرد إشارة اجتماعية تُلاطف جيب المواطن. بل كان اعترافاً ضمنياً بأن فاتورة الدواء تُستنزف من جهتين معاً: من جيب المريض مباشرة، ومن المال العام عبر التعويضات التي تؤديها الدولة وصناديق التأمين. كل درهم إضافي في هامش الربح لا يُثقل جيوب المريض فقط، وإنما يضغط على ميزانيات عمومية حساسة، ويضيّق هامش الإنفاق على خدمات صحية أخرى أكثر إلحاحاً.

مشكل الأدوية في المغرب ليس قصة طرفين على طاولة تفاوض، بل شبكة معقدة تتداخل فيها مصالح المصنعين والموزعين والصيادلة وشركات التأمين والهيئات المنظمة، وصولاً إلى المريض الذي يرى الواجهة أكثر مما يرى الكواليس. في الواجهة، حكومة تُحاسَب ووزارة صحة تُنتقَد وصيدلي يواجه غضب الزبون. وفي الخلف، منظومة تسعير وترويج وتوزيع تتحرك بعقلٍ بارد، تُتقن لغة اللوائح كما تُتقن لعبة الندرة.

“لوبي الأدوية” قوته لا تكمن في صخبها، بل في صمتها. إنه لا يمثّل كياناً واحداً يُشار إليه بالإصبع، بل مصالح متشابكة تُدار عبر قواعد السوق والملفات التقنية ولجان التسعير ومكاتب الدراسات.

وبالتالي، تظهر الدولة كأنها تفاوض “قطاعاً”، بينما هي في الحقيقة تواجه منظومة تملك أدوات ضغط ناعمة وخشنة في الوقت نفسه: قدرة على إبطاء التزويد، أو تأخيره، إطلاق حملات ترويجية لجنيس تُربك اختيار الطبيب، أو مراكمة حجج تقنية تُعقِّد أي محاولة لتدخل سِعري سريع..

لماذا عجز الحكومات المتعاقبة عن كسر الحلقة؟ لأن الملعب مُفخّخ من الأساس. أولاً، فجوة المعلومات: الشركات تعرف الكلفة الحقيقية للببحث والتطوير والتصنيع والتوزيع، بينما الجهة العمومية تعتمد على تصريحات ومقارَنات مرجعية وأسعار دولية قد لا تعكس الواقع المحلي. حين تكون البيانات حكراً على الفاعل الخاص، يصبح صانع القرار أسير جداول لا يملك مفاتيح تدقيقها. ثانياً، تشتت السلطة التنظيمية بين وزارات وهيئات ولجان، يجعل القرار متدرجاً ومطولاً، ويمنح الوقت الكافي لمن يتقن لعبة “الفيطو الصامت”.

ثالثاً، اقتصاد الندرة. يكفي أن يُسحب دواء أساسي من السوق لأيام حتى تنقلب المعادلة: المواطن لا يرى المورد ولا المصنع، يرى الدولة. هنا تشتغل أقوى ورقة ضغط: الاستقرار الاجتماعي. أي خطوة تنظيمية خشنة” قد تُقابَل بإشارة خافتة تُنشّط نقصاً ظرفياً في دواء مزمن، فيتبدد رأس المال السياسي للحكومة في ساعات. لذلك تفضّل السلطة التنفيذية المقاربة التدرجية، وتدخل في مفاوضات “ماراطونية” تطول أكثر مما تُثمر.

رابعاً، اختلال الحوافز داخل السلسلة. الطبيب يُكتب له أن يصف دواءً باسم تجاري اكتسب ثقة، والصيدلي يوازن بين مصلحة المريض وهامش الربح، والموزع يحمي دورته النقدية، والمصنع يبرر السعر بفاتورة الجودة والكلفة. في ظل هذه المعادلة، يصبح إدخال الجنيس ذي الجودة بسعر أدنى معركة نفسية قبل أن تكون تقنية، وتتحول سياسات الاستبدال داخل الصيدليات إلى ساحة تجاذب دقيقة بين الحق في العلاج ومصالح مشروعة لكنها مكلفة على المنظومة.

خامساً، هندسة التعويض. حين تتحمل صناديق التأمين قسماً كبيراً من الثمن، يتراجع حافز المستهلك للبحث عن الأرخص، ويزداد هامش مناورة السعر عند المنتج. الدعم غير الذكي للطلب يخلق منطقة راحة للعرض. وهكذا تدفع الدولة مرتين: مرة عند الصرف في الصيدلية، ومرة عند التسوية عبر التعويضات.

كل ذلك لا يعني أن الحكومة بلا أدوات. لكنه يفسّر لماذا تتعثّر كلما حاولت تغيير “قواعد اللعبة” بدفعة واحدة. الطريق الواقعي يمر عبر تفكيك عناصر القوة التي راكمها اللوبي، واحدةً تلو الأخرى. الشفافية أولاً: كشف منهجي لأسعار الاستيراد والتصنيع وهوامش كل حلقة، ونشر قواعد التسعير والمراجعة الدورية ومقارنات دولية قابلة للتدقيق، يجعل كلفة “السعر المرتفع” سياسية أمام الرأي العام، لا تقنية تُدار في غرف مغلقة.

التمكين ثانياً: سياسة أدوية جنيسة طموحة لا تكتفي بالترخيص، بل تُسهّل التصنيع المحلي، وتُحفّز وصف الاسم العلمي، وتمنح الصيدلي حق الاستبدال بضوابط واضحة تحمي المريض والمهني معاً. الشراء الذكي ثالثاً: مجمعات شراء وطنية أو جهوية للأدوية الأساسية تُقلص الكلف عبر الحجم، مع عقود توريد تربط السعر بالتوافر وتعاقب النقص المفتعل. الرقابة السوقية رابعاً: تتبّع هوامش الربح، ضبط الإشهار الطبي، تقليص تضارب المصالح في الندوات والرعايات، وتفعيل العقوبات عند الإخلال بالتزويد.

لا يكفي إعلان النية الحسنة لضبط الأسعار، ولا تكفي مفاوضات تمتد على سنوات لتغيير توازن قوى تشكّل عبر عقود. المطلوب شجاعة تنظيمية هادئة: قرارات صغيرة متتابعة تُراكم أثراً كبيراً، ومؤشرات علنية تُحاسَب عليها الحكومة كما يُحاسَب القطاع. حينها فقط، سيتحوّل تصريح “الأسعار المعقولة” من جملة تطمئن الميزانية إلى سياسة تحمي المريض، وتعيد المنظومة الصحية إلى وظيفتها الأولى: الحق في الدواء بسعر عادل، لا في الربح بسقفٍ مفتوح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى