البطالة مصطنعة! وسوق الشغل لا يجد من يشتغل “عطّاشًا”.. مداخلة برلماني تستفز الجامعيين

حسين العياشي
هكذا، وببرودة أعصاب، يُلقى اللوم في وجوه الشباب بخصوص ارتفاع معدّلات البطالة. لم يقل محمد شوكي، صراحة إنهم “لا يريدون العمل”، لكنه قالها ضمناً وهو يتحدّث، خلال لجنة المالية والتنمية، عن أوراش بناء لا تجد من يشتغل فيها، وحدّادين نادرين، وحقول شاسعة تبحث عمّن يفلّحها. والرسالة من بين السطور أوضح من التصريح: افهموا، أن الحكومة اليوم، لا تحتاج إلى تدفّق الأطر بقدر ما تحتاج إلى “عطّاشين” تُرقّع بهم ثقوب الأوراش المفتوحة والحقول و”سودور”… حسنٌ! ولكن هل المطلوب من خريجٍ أمضى سنوات من الكفاح في التعليم العالي، أن يطوي شهادته مثل مناديل المقاهي ويقفز إلى مهن بلا مسار مهني واضح ولا حماية اجتماعية ولا أفق كريم؟
هذه الرواية تُريح رئيس فريق التجمع الوطني للأحرار، حتى وإن كانت تُزعج الواقع. لأن السؤال الذي يسبق كل شيء بسيط وشائك في آن: ما طبيعة سوق الشغل الذي نطالِب الشباب بالاندماج فيه؟ إذا كانت الوظيفة العمومية قد انكمشت، وإذا كانت القطاعات الأكثر طلباً اليوم تعرض أعمالاً موسمية وهشة بأجور لا تغطي كلفة الحياة في المدن، فأيّ اندماج هذا؟ تعليق الأزمة على شماعة “غياب الرغبة” يختزل مأزقاً بنيوياً في نزوة فردية، ويحوّل العطل إلى متهم حتى يثبت العكس.
ثم لنسائل الأمثلة التي استند إليها خطاب محمد شوكي وقبله الناطق الرسمي باسم الخكومة، مصطفى بايتاس، حينما يبررون اسباب انكماش سياسية التوظيف بأن الحكومة تسعى الى توجيه الشباب نحو قطاعات أخرى. الفلاحة التي يُراد للشباب أن يتجهوا إليها، تعصف بها تقلبات مناخية وجفاف متكرر، ما يعني فرصاً متقلّبة ومداخيل متأرجحة وأعمالاً بلا ضمانات. أما أوراش البناء التي “لا تجد” عمالاً، هل فتحت دفاترها لنرى مستويات الأجور، وساعات العمل، واحترام الحد الأدنى، ومدى التصريح لدى الصناديق الاجتماعية؟ قبل أن نتهم الشاب بالزهد في العمل، فلنفتّش عن زهد أرباب العمل في شروط اللائق منه، هؤلاء الذين يعرف رئيس الحكومة ثلثهم على حد تعبيره.
الشباب ليسوا كائناً أسطورياً يرفض العمل لذاته. ما يُزهد الناس هو العمل بلا أفق ولا كرامة. أعطِ الشاب ورشةً لكن أعطه معها مساراً: تدريباً مدفوعاً، شهادة كفاءة معترفاً بها، سلّم ترقي واضحاً، أجوراً تُحترم، تأميناً ضد حوادث الشغل، وتفتيشاً يزور ولا يغفو. قُل له “اذهب إلى الفلاحة”، لكن افتح له أبواب التكنولوجيا الزراعية، والريّ الذكي، وسلاسل القيمة، وتمويلات صغيرة برؤية كبيرة، لا حقلًا عطِشاً وانتظار معجزة.
أما حكاية “الدولة لا تحتاج الأطر بل اليد العاملة”، فهي نصفُ حقيقة تُستخدم كذريعة. نعم، هناك عطشٌ لمهنيةٍ حرفية محترفة، لكن اليد العاملة التي نحتاجها اليوم ليست “قوة عضلية رخيصة”، بل عمّال مهرة يتقاضون أجراً عادلاً ويعرفون حقوقهم ويجدون نظاماً يحرسها. اليد العاملة التي تبني البلدان لا تُستدعى عند الحاجة وتُنسى عند الحساب، بل تُحترم كرامتها وتُصان صحتها ويُستثمر في تأهيلها المستمر.
إذا أردنا خطاباً يعالج لا يُجمّل، فلنبدأ بالسياسات لا بالاتهامات. ليكن معيار الصفقات العمومية هو التشغيل اللائق للشباب، لا مجرد إنجاز الأشغال في الآجال. لتُربط الإعفاءات الضريبية بجودة العقود، لا بعددها. لتُطلِق الحكومة منصاتٍ وطنية للتحويل المهاري السريع نحو القطاعات الصاعدة: الطاقات المتجددة، الخدمات الرقمية، الصناعات التحويلية ذات القيمة المضافة، اللوجستيك الذكي. ولتُجبر كل مؤسسة عمومية على حصصٍ سنوية من تدريبٍ ممّول لطلبة السنوات الأخيرة، بعقود واضحة وأجرٍ محترم.
وحينها فقط يمكن لخطاب “اذهبوا حيث الفرص” أن يكتسب مصداقية. لأن الفرص لن تكون شعاراً معلقاً فوق بابٍ موصد، بل طرقاً مفتوحة بخارطة واضحة: من مقاعد الدراسة إلى ورش محترم، ومن ورش محترم إلى مهنةٍ بكرامة. إلى ذلك الحين، كل حديثٍ يضع الشاب في قفص الاتهام هو محاولة لستر عطبٍ أشمل: سوقٌ لا يزال يطلب الكثير ويعرض القليل، ونظام تشغيلٍ يفرّ من تنظيمه كلما اقترب التفتيش.
لنقلها بلا مواربة: لا أحد يطلب امتيازاً، إنما يطلب قاعدة اللعبة أن تكون عادلة. إن أردتم من الخريج أن يبدّل مساره، فامنحوه سلّماً لا هاوية. وإن أردتم من العامل أن يحمل إسمنت الوطن على كتفيه، فاحملوا معه عبء الكرامة على سياساتكم. عندها فقط، سيتحوّل سؤال “أين هي اليد العاملة؟” إلى جوابٍ عملي: هنا حين يكون العمل عملاً يليق بالإنسان.





