الحلقة (10): حصيلة “آل العمري”.. يوم يكفي لساكنة الرشيدية.. والباقي إجازة برلمانية مدفوعة الأجر

حسين العياشي

في الإدارة، يُقال إن الملفات الثقيلة لا تُحسم في جلسة واحدة. أما في السياسة، يبدو أن بعض النواب اكتشفوا العكس، ولاية كاملة يمكن طيّها في صباح برلماني واحد من أصل 1824 يوم، ثم العودة إلى الصمت المريح مدفوع الأجر، وممول بالكامل من جيوب دافعي الضرائب.

النائب البرلماني عبد الله العمري، عن دائرة الرشيدية، قدّم خلال الولاية التشريعية الحالية (7) سبعة أسئلة شفوية.
الرقم، لو أُخذ مجردًا، قد يوحي بحد أدنى من الحركية. لكن السياسة، مثل المحاسبة، لا تُقرأ بالأرقام وحدها، بل بتفاصيلها المفصّلة.
فالأسئلة كلها تقريبًا طُرحت في اليوم نفسه، وكأن النائب قرر أن يؤدي واجبه البرلماني في جرعة واحدة، ثم يسلّم بطاقة العمل، ويغلق القوس إلى أجل غير مسمى.

سبعة أسئلة في جلسة واحدة، ثم صمت طويل يمتد لأربع سنوات. لا متابعة، لا مساءلة لاحقة، لا تحويل للأسئلة إلى ضغط سياسي متواصل، ولا حتى إصرار رمزي على الملفات التي تهم منطقة بحجم الراشيدية، بتعقيداتها الاجتماعية، والهشاشة التي تطبع جزءًا كبيرًا من نسيجها.

عبد الله العمري ليس حالة استثنائية، لكنه نموذج دقيق لنمط سياسي آخذ في الترسخ. نائب حاضر بالاسم، نشيط في لحظة واحدة، ثم غائب سياسيًا دون أن يُسائلَه أحد. لا ضجيج يفضحه، ولا صمت كامل يحرجه. منطقة وسطى تميل نحو الصفر لكنها مثالية للبقاء.

إن هذا المسار لا يمكن فصله عن السياق العائلي للاسم؛ فعبد الله العمري هو ابن مصطفى العمري، الذي يشبه الرحالة السياسي بمعنى الكلمة. ففي 2007، ترشح باسم الحركة الشعبية، ثم في 2011 اختار التجمع الوطني للأحرار، وبعدها انتقل إلى الأصالة والمعاصرة، حتى أصبح اليوم الأمين الجهوي للأصالة والمعاصرة بدرعة تافيلالت.
إنه كمن يرحل بين الفنادق السياسية، يختار الأجنحة بحسب الطقس الانتخابي، دون أن يفقد القدرة على الحفاظ على “رصيد الأسرة” وانتقاله الرمزي بين المقاعد، وكأن كل حزب محطة توقف على طريق طويل يمتد لعقود.

في هذه المعادلة، لا يُطلب من النائب أن يُقلق الحكومة، ولا أن يُزعج الأغلبية، ولا أن يفتح ملفات محرجة. يكفيه أن يمرّ مرورًا خفيفًا، أن يطرح ما يكفي من الأسئلة ليُقال إنه “سأل”، ثم يعود إلى الصمت الذي لا يكلف شيئًا، ولا يخلق خصومات.

لكن المسؤولية هنا لا تتوقف عند النائب وحده. فهذه النماذج لا تسقط على رؤوسنا من السماء، ولا تفرض نفسها علينا بالقوة،  وإنما هي نتيجة مباشرة لسلوك انتخابي جماعي، لم نستطع تجاوزه، يتحمل فيه المواطن جزءًا أساسيًا من تبعاته.

هناك من يصوّت على هذه الأسماء بدافع لقمة العيش، أو القرب العائلي، أو الحسابات المحلية الضيقة، دون أن يسأل عن الحصيلة السابقة أو الدور المنتظر.

في الجهة المقابلة، هناك من يختار المقاطعة الكاملة، بدافع الغضب أو اللامبالاة أو فقدان الثقة، ويترك الساحة فارغة لكتلة انتخابية منظمة يسهل التحكم فيها تمنح الشرعية لمن تريد. استقرار الصندوق على هذا النحو يعطي نتيجة واحدة لا غير: “برلمان يُعاد إنتاجه بنفس الوجوه، بنفس الأداء الباهت، وبنفس الصمت الممتد”.

الراشيدية، مثل غيرها من الدوائر، لا تعاني من نقص في القضايا، بل من فائض في الصمت. تعاني من تمثيل يُنجَز بسرعة، ويُنسى بسرعة أكبر، في حين تُترك الملفات الحقيقية تتآكل ببطء خارج القاعة.

في النهاية، لا يبدو هذا المشهد استثناءً ولا زلّة عابرة، بل جزءًا من نظام كامل يتقن تحويل الصمت إلى وظيفة، والغياب إلى امتياز، والمقعد إلى حساب بنكي مفتوح باسم التمثيل.
فنحن لا نمول أداءً، بل نمول فراغًا؛ لا نكافئ اجتهادًا، بل نكافئ القدرة على البقاء دون أثر.

وحين نُحصي ما دُفع، ونتأمل ما أُنجز، نكتشف أن الخسارة لم تكن فقط في 840 مليون سنتيم التي خرجت من جيوب دافعي الضرائب، نحو حساب “آل العمري” البنكي بعد ما يقارب عشرين سنة، بل في المعنى ذاته: معنى البرلمان، معنى تمثيل الأمة، ومعنى أن يكون للصوت ثمن وللصمت حساب.
لقد دفعنا كثيرًا، لا لنسمع نقاشًا، بل لنحصل على هدوء مصطنع لا يشبه إلا غرف الانتظار الطويلة في الإدارات المنسية.

وإذا كان النائب قد اختار الصمت طريقًا مريحًا، فإن السؤال الحقيقي يعود إلينا نحن:
إلى متى سنواصل تمويل هذا الصمت؟
وإلى متى سنمنح الشرعية لمن لا يتكلم باسمنا، ولا يسأل من أجلنا، ولا يشعر بثقل الدرهم الذي نقتطعه من عرقنا لنضعه في جيب تمثيل بلا أثر؟

فالبرلمان، في النهاية، ليس مكانًا للتوارث، ولا منصة للرحلات الحزبية، ولا قاعة انتظار مدفوعة الأجر.
إما أن يكون ساحة للصوت والمساءلة،
أو يتحول رسميًا إلى أرشيف صامت..
نُغلقه كل خمس سنوات، ونفتح صفحة جديدة، بنفس الأسماء، ونفس الكلفة، ونفس النهاية المعلّقة.

وهنا، بالضبط، يبدأ السؤال الذي لا يريد أحد الإجابة عنه..

يتبع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى