
حسين العياشي
في آسفي، لم تكن الفيضانات سوى الشرارة التي كشفت المستور، أما الغرق الحقيقي فكان سياسيًا بامتياز. فحين تتعرّى مدينة بأكملها أمام أول اختبار مناخي جدي.. لا يعود السؤال مرتبطًا بكمية الأمطار، بل بنوعية الصمت الذي سبقها، والذي أوصلها إلى شفا الانهيار. الكارثة هنا ليست فقط ما جرفته السيول، بل ما لم يُنجز، وما لم يُسأل عنه، وما لم يُطرح يومًا داخل المؤسسة التي وُجدت أصلًا لمنع مثل هذه السيناريوهات: “البرلمان”.
آسفي ليست مدينة بلا ممثلين، بل مدينة مثقلة بنواب اختاروا الغياب كخيار سياسي دائم. نواب يفترض فيهم أن يكونوا صوت المدينة في الرباط، فإذا بهم يتحولون إلى فراغ مؤسسي مُكلف. حين نعود إلى حصيلتهم البرلمانية، نفهم سريعًا لماذا بدت المدينة وحيدة في مواجهة مصيرها؛ النائب البرلماني عن حزب الاستقلال، هشام سعنان، قضى ما يقارب (15) خمسة عشر عامًا تحت القبة، ولم يطرح خلال الولاية الحالية سوى سؤال شفوي واحد يتيم، وكأن المدينة تعيش فائضًا من البنيات التحتية ولا تحتاج إلا إلى الصمت. نائب آخر، عن حزب الأصالة والمعاصرة، محمد كريم، (10) عشر سنوات من التمثيل، وثلاثة أسئلة شفوية فقط، حصيلة لا تحتاج إلى تحليل بقدر ما تحتاج إلى اعتذار علني للناخبين. أما النائب البرلماني عن حزب التجمع الوطني للأحرار، رشيد الصابر، الذي جاء بديلًا لزميل سابق أدانته العدالة، فاختار أن يُكمل المشهد بسؤال شفوي واحد، لا ليكسر الصمت، بل ليؤثثه ويمنحه غطاءً مؤسساتيًا أنيقًا. هذا جزاء 72.382 صوت الذي منحهم البطاقة الذهبية لعضوية مجلس النواب خلال انتخابات 2021..
الأدهى أن هؤلاء النواب لا ينتمون إلى هامش السياسة، بل إلى قلب الأغلبية الحكومية. أي أنهم لا يفتقدون القرب من القرار، ولا يشتغلون من موقع المعارضة المقيدة، بل يمثلون أحزابًا تشارك في الحكم وتتحمل المسؤولية الكاملة عن السياسات العمومية. ومع ذلك، لم نرَ أي أثر لهذا الموقع في أداءهم. لا ضغط، لا ترافع، لا مساءلة، لا مبادرة تشريعية، ولا حتى محاولة خجولة لرفع صوت آسفي داخل قبة البرلمان. وكأن الانتماء للأغلبية أصبح مبررًا إضافيًا للصمت، لا حافزًا للفعل.
نواب التحالف الحكومي في آسفي مارسوا دورًا واحدًا بإتقان، وهو تطبيع الغياب. حضور شكلي في موسم الانتخابات، وغياب وظيفي في باقي الفصول. لم يتحركوا حين كانت المدينة تُسلَّم لجشع البناء العشوائي، ولم يسألوا حين كانت مشاريع البنية التحتية تُجزّأ أو تُؤجَّل، ولم يُزعجوا الوزراء بأسئلة قد تُحرجهم سياسيًا. فضلوا الانسجام الهادئ مع الحكومة على الانسجام الصادق مع ساكنة المدينة.
في السياسة، الصمت ليس حيادًا، بل موقف. وحين يصمت نائب عن الاختلالات، فهو لا يترك فراغًا فقط، بل يملؤه بالإهمال. وحين يتكرر هذا الصمت لسنوات، فإنه يتحول إلى سياسة قائمة بذاتها، عنوانها: «دَعِ الأمور تسير كما هي، حتى تقع الكارثة». وما وقع في آسفي ليس سوى النتيجة الطبيعية لمسار طويل من التمثيل الكسول.
ثم هناك السؤال الذي لا يريد أحد مواجهته: ماذا قدم هؤلاء مقابل ما تقاضوه؟ رواتب وتعويضات وامتيازات تُصرف بانتظام، مقابل أداء لا يُقاس حتى بالحد الأدنى من الواجب الرقابي. ملايين من المال العام كان يمكن أن تتحول إلى ضغط سياسي، إلى مشاريع، إلى مساءلات حقيقية، لكنها ذهبت لتمويل صمت مُترف، لا يسمعه المواطن إلا حين تغرق مدينته.
ومع ذلك، لا يمكن إعفاء المجتمع من مسؤوليته. فهؤلاء النواب لم يفرضوا أنفسهم بالقوة، بل صعدوا بأصوات الناخبين أو بصمت المقاطعين. جزء صوّت لمن لا يسأل، وجزء آخر انسحب وترك الأقلية تقرر. وفي الحالتين، كانت النتيجة واحدة: مدينة بلا صوت، ونواب بلا أثر.
آسفي اليوم لا تحتاج فقط إلى إعادة إعمار الشوارع، بل إلى إعادة بناء معنى التمثيل. تحتاج إلى نواب يفهمون أن المقعد ليس مكافأة انتخابية، بل عبء يومي ومسؤولية ثقيلة. لأن المدينة التي يُمثلها الصامتون، محكوم عليها بأن تُفاجَأ دائمًا بالكوارث. والكوارث، في النهاية، لا تبدأ بالمطر.. بل بالصمت الطويل الذي يسبقه.
ورغم كل هذا، قد يعتقد البعض أن الخوض في هذه الحصائل الميتة نوع من العبث، أو أن النبش في أرشيف الصمت مغامرة غير مرغوب فيها. لكن ما دام الصمت يُكلّف هذا البلد مدنًا وأرواحًا وأموالًا، فإن كسره يصبح أقلّ الإيمان. سلسلة “الحصيلة” لن تتوقف، لا لأن الطريق سهل، بل لأن الضغوط دليل إضافي على أننا نلمس مناطق حساسة اعتادت العتمة، لا الضوء.
غدًا سنستمر في آسفي، لكن سنعبر إلى الضفة الأخرى، ضفة المعارضة هذه المرة؛ معارضة تُفضّل الوراثة على المواجهة، وتُتقن فن البقاء في الظل حتى لا تجذب الانتباه، معارضة تتوارث الكراسي كما تُورّث الأملاك، وتُقدّم نفسها كبديل وهي بالكاد ترفع صوتها. زرنا جحورهم، ونبشنا في حصيلتهم، فاكتشفنا ما يفوق العجب.. ويستحق أن يُروى.
موعدنا غدًا، في نفس التوقيت.
يتبع.





