
حسين العياشي
في مدينة آسفي، حيث السياسة تُدار وكأنها مسرحية عائلية، أصبح البرلمان أكثر شبهاً بسيارة عائلية يمكن نقلها من جيل لآخر. المقاعد البرلمانية، التي من المفترض أن تمثل صوت الشعب، أصبحت حكرًا على عائلات محسوبة، كما لو أن الناخبين مجرد ديكور في هذا العرض الطويل. واليوم، سنسلط الضوء على مقعد من مقاعد الفريق الدستوري بمجلس النواب، وهو الفريق الذي ينطبق عليه بحق تسمية “الطابور الخامس للحكومة”. حزب يُحسب على المعارضة البرلمانية، ولا يدخل في التحالف الحكومي الثلاثي، ومع ذلك، يصوت دائمًا مع الأغلبية، ويتضامن معها على حساب الأقلية التي لا تتجاوز مقاعدها نسبة 18 في المئة، كأن البرلمان أصبح مسرحًا لتوزيع الأدوار بين المتعاونين مع الحكومة، سواء كانوا داخل التحالف أو خارجه.
في هذا السياق، نجد أنفسنا أمام مشهد سياسي أصبح فيه الصوت المعارض شبه مغيّب، في حين أن المقاعد البرلمانية تحولت إلى مجرد ملحقات لأغراض سياسية ضيقة.
واليوم، تحت المجهر، نكشف النقاب عن “عائلة المسقي” التي حولت الكرسي البرلماني من أداة تمثيل شعبي إلى ملكية موروثة، لا تخضع لأي مساءلة أو محاسبة شعبية! والسؤال البسيط هنا: إذا كانت المعارضة عاجزة عن أداء دورها، فماذا ننتظر من نواب أحزاب الأغلبية؟
نموذجٌ بارزٌ في هذا السياق هو التهامي المسقي، الذي كان يعتبر من الشخصيات اللامعة في آسفي، وإن كانت “لامعة” في سياق مخالف لما هو معتاد. هذا الرجل، الذي لم يكن من نصيبه التمتع بعضوية الولاية الحالية بسبب “التنافي” السياسي الفهيم” ترشح بقبعة الأحرار في انتخابات الغرف المهنية ثم غيرها بقبعة حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية، وهو خطأ لا يقع فيه حتى المبتدئ في السياسة، حيث ظل يحوم في فضاء الأحزاب كما لو أن السياسة هي مجرد لعبة للانتقال بين الألوان. لكن، يبدو أن المسقي كان غافلًا عن كون الترحال السياسي أصبح محظورًا، والأنظمة الداخلية للبرلمان لم تعد تعترف بمهاراته في “القفز على التزكيات”. والغريب أنه لم يستوعب الدرس رغم تجريده من العضوية، فمباشرة بعد خروجه من السجن، الذي دخله بسبب تهم التلاعب في الانتخابات، ظهر في ندوة لحزب العدالة والتنمية.. فهل هو مجرد حضور رمزي أو محاولة لضغط على حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية للحفاظ على مصالحه المتجذرة؟
ماذا عن حصيلة اتهامي المسقي في الولاية السابقة؟ (0) صفرٌ كبير، صفرٌ مكمل، لكنه صفرٌ كلّف أكثر من 200 مليون سنتيم من أموال دافعي الضرائب. ولولا تدخّل القدر قبل القضاء، لكان هذا الصفر قد استمر في الولاية الحالية. لكن الرجل، الذي يبدو أنه لا يكتفي بالعضوية، قرر أن يُورّث الكرسي إلى أبنائه، ليصبح البرلمان وكأنه قطعة أثاث ثمينة تُورث من جيل إلى جيل.
بنات المسقي العزيزات، ورثن “الواجب العائلي” بأفضل شكل ممكن. الابنة هاجر المسقي في الولاية السابقة قدمت (3) ثلاثة أسئلة شفوية طوال خمس سنوات، مقابل أكثر من 200 مليون سنتيم منأموال دافعي الضرائب. أما شقيقتها مريم المسقي، فقد استلمت الكرسي في الولاية الحالية، وما زالت على نفس المنوال: (3) ثلاثة أسئلة شفوية، بينما تتدفق الرواتب والتعويضات، وكأن الأسئلة هي مكافأة موسمية تُوزع مع كل دفعة جديدة.
المفارقة الحقيقية هنا أن هذه العائلة تروج لنفسها كممثلين شرعيين لساكنة آسفي، في حين أن البرلمان أصبح محكومًا بقانون إرث عائلي صارم، وليس بإرادة المواطنين. الأموال التي أُنفقت على صمت عائلة “آل المسقي”، تجاوزت 648 مليون سنتيم، كان من الأجدر بها أن تُستثمر في تحسين التعليم، أو الصحة، أو البنية التحتية في آسفي. لكنها ذهبت إلى جيوب غائبة تمثل الزخرفة الشكلية للسياسة لا أكثر ولا أقل.
هذه ليست إساءة فردية، بل نموذجٌ يتكرر في المؤسسة التشريعية، حيث تظل الحصص محفوظة لأبناء العائلات المحظوظة، بدون مساءلة أو محاسبة شعبية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل من المعقول أن يتحول البرلمان إلى ملكية خاصة تُدار على حساب المواطنين، الذين يبقون طيلة خمس سنوات بلا صوت، بلا حماية، بلا أثر؟
في النهاية، الأموال التي دُفعت من جيوب دافعي الضرائب أصبحت أداة لدعم صمت عائلي مترف، لا يقدم للمواطنين سوى وهم التمثيل، وزخرفة الشكل، بينما الواقع يصرخ بالعجز والفشل والإهمال. هذا التوريث السياسي، الذي كان في الماضي يُحتمل، لم يعد مقبولًا في زمن يُطالب فيه الجيل الجديد بتمثيل حقيقي، وشفافية، ومساءلة صارمة.
غدًا، سنواصل السلسلة من زاوية جديدة، حيث نغوص في كواليس الشخصيات التي تتناوب على المقاعد، لنتعرف على كيف تصبح أعمدة الحكومة مجرد ديكور لمن يملك الاسم، وليس لمن يمثل الناس فعلًا. الموعد في نفس التوقيت، مستمرون رغم الضغوط.
يتبع..





