الحلقة (5): الطرمونية أسطورة الأبديّة.. بين حصيلة “الشبح” ورواتب تجاوزت المليار

حسين العياشي

مع اقتراب الولاية التشريعية الحادية عشرة من محطتها الأخيرة، يطفو على السطح ذلك السؤال الذي يتحاشاه الجميع: كيف يمكن لبرلمان يُفترض فيه أن يكون صوت الأمة، أن يتحوّل في بعض زواياه إلى متحف مفتوح لشخصيات “معمّرة” لا تفعل شيئًا سوى التوقيع على الحضور، ورفع اليد أثناء عملية التصويت.. وتغيب عن أبرز المحطات؟

في هذه الحلقة من سلسلة حصيلة البرلمانيين “الكسالى”، ومساهمة منا في تخليق الحياة السياسية، نجد أنفسنا اليوم أمام واحدة من أكثر الأسماء البرلمانية “المعمرّة” تحت القبة، الذي يبدو أنه قطع وعدًا مع الكرسي البرلماني على أن لا تفرقهما إلا ساعة الموت. إنه امبارك الطرمونية، أقدم نائب في مجلس النواب، والوحيد الذي ظل يحتفظ بحقوقه “البرلمانية” دون أن يبدع في تقديم أي إضافة تذكر خلال أكثر من 28 سنة داخل أسوار البرلمان. لا سؤال شفوي، ولا مسائلة، لا إحراج لوزير، ولا حتى “كلمة عابرة” حول قضايا مدينة الجديدة، المدينة التي تتألم.. بنائبٌ لا يتكلّم. الرجل الذي دخل البرلمان من أبوابه الواسعة، في وقت كان فيه التلفاز بالأبيض والأسود، وبقي كالسخر حتى صار الذكاء الاصطناعي يكتب للنواب مداخلاتهم.

لقد نال مبارك الطرمونية 35,868 صوتًا في انتخابات 2021، لكن حصيلته كسابقتها في الولايات الخمس السابقة كانت بنكهة “الصفر” على كل المستويات، عدا بطاقات العضوية التي لا يعلم عنها سوى الله. كيف يعاد انتخاب رجل لم يطرح سؤالًا شفويًا واحدًا على الحكومة؟ كيف تثق ساكنة الجديدة في برلماني يظل في حالة “سكون” دائم بينما يعاني الإقليم من بطالة، تهميش، وهجرة شباب؟ ببساطة، هو ليس سوى نموذج حي لما يسميه البعض “البرلمانيين الأشباح”. وحينما نتحدث عن الأشباح، فإن الطرمونية هو تعريف دقيق لها.

المضحك المبكي أن هذا “البرلماني الشبح” يتقاضى ما يفوق 35 ألف درهم شهريًا كأجرة صافية من ميزانية الدولة. أي أكثر من 1.1 مليار سنتيم، هذا ما كلّف صمته منذ 1997 إلى تاريخ كتابة هذا المقال، دون احتساب التعويضات التكميلية، وامتيازات التنقل، والسفريات، وتغطية الهاتف، وكل تلك الامتيازات التي يستفيد منها حتى من لا ينطق بحرف واحد داخل القبة.

نعم.. أزيد من 11 مليون و700 ألف درهم دفعها دافعو الضرائب مقابل تمثيل صامت، يشبه اشتراكًا سنويًا في فراغ سياسي مزمن. ولكم أن تتخيلوا ما كان من الممكن إنجازه بهذا المبلغ على أرض الواقع. من المعروف أن لكل شيء ثمن، والديمقراطية لا تستثنى من هذه القاعدة، هذه هي ضريبة التصويت على “العفاريت”، بل وحتى مقاطعة الانتخابات لها مساهمتها في هذا المشهد “الأعرج”، لأن العزوف هو الضامن لعودة هؤلاء من الباب الواسع، وذلك عن طريق كتلتهم الناخبة التي لا تتغير.

المثير للسخرية أن الطرمونية ليس فقط غائبًا عن جلسات البرلمان، بل تجدونه أول المتسابقين في المهرجانات، حيث يتحدث بكلام عاطفي عن “الاهتمام بالثقافة”، وعن وعوده الحماسية لجلب فنانين أمازيغيين، لكن بشرط واحد: “أن لا تصوتوا لأي منافس، وأن لا تمنحوه مكاني!” أعتقد أن الطرمونية أصبح يتقن فن الفلكلور السياسي أكثر من فهمه للأزمات التي يعاني منها المواطنون الذين يثقون فيه ويمنحونه أصواتهم مع كل محطة انتخابية.

يبدو أن امبارك الطرمونية اكتشف ثغرة ما في النظام الانتخابي. كيف لرجل لا يتحدث عن مشاكل مدينته وأهله أن يُنتخب لست (6) ولايات متتالية؟ هل هو سحر التصويت؟ أم مجرد حالة من “الغفلة السياسية” التي أصابت الناخبين في دائرة الجديدة؟

لا يمكن الحديث عن الطرمونية دون التطرق إلى السخرية التي أطلقها رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، عندما تحدث عن “العفاريت”. فإذا كانت العفاريت تظل حاضرة في أذهان المغاربة، فإن الطرمونية هو أحد تلك “العفاريت البرلمانية” التي اختارت البقاء في الظل، دون أن تحمل صوت ساكنة الجديدة الى البرلمان. هو بكل بساطة الصورة المثالية لنائب ليس فقط غائب عن العمل البرلماني، بل مستمر في بناء “أسطورته السياسية” على حساب آلاف المواطنين الذين يمنحونه أصواتهم من دون أن يدركوا حقيقة الوضع، للأسف..

وبينما تتراكم مشاكل مدينة الجَديدة، من البطالة، والنقص في البنية التحتية، إلى ضعف الاستثمار.. يظل الطرمونية بعيدًا عن أي مساهمة حقيقية. ليس مطلوبًا منه أن يحل كل مشاكل المدينة، ولكن على الأقل أن يرفع صوته، يطرح سؤالًا واحدًا حول قضايا المواطن، يشارك في نقاش حقيقي. ولكن الطرمونية يبدو أنه وجد راحته في اللعب على “الوجود” في البرلمان دون أن يُرهق نفسه بالمشاركة في فعالية حقيقية.

إن الطرمونية يمثل حالة فريدة من نوعها في تاريخ البرلمان المغربي. هو “البرلماني العتيق” الذي يتحكم في الكرسي كما لو كان ملكًا على عرشه، يرفض أن يتركه حتى وإن كان لا يقدم شيء ملموس للمواطنين.. وحتى إن تراجع في الانتخابات القادمة، فمن الأغلب أن يقدّم إبنه خلفًا له، المهم، كرسي الطرمونية سيظل في ملكية النّسب إلى ان يرث الله الأرض ومن عليها. وهنا تجدر الإشارة، إلى أن حصيلة “ولد” الطرمونية هو الآخر على رأس جماعة أولاد أفرج تسير على نفس خطى الأب في البرلمان، وبالتالي لا حاجة لوصف المآلات، إلا إذا كان للناخبين رأي آخر.

في نهاية المطاف، إن استمرار هذا النموذج في البرلمان سيكون بمثابة رسالته الكبرى إلى المواطنين: “الصمت أفضل من الظهور، والخمول أفضل من العمل”. هكذا يتحول الطرمونية من نائب ممثل للناس إلى “مُعمر” في مقعده، لا يغادره إلا في حالة الموت أو التقاعد السياسي القسري.

الحقيقة الصادمة هي أن مبارك الطرمونية يمثل نموذجًا عابرًا في زمننا الحالي. إن صفره البرلماني يتجاوز كونه مجرد غياب في حصيلة العمل، بل هو أكبر دليل على فشل المنظومة الانتخابية التي تفرز أشباحًا تحت القبة. فبوجود مثل هذه الأمثلة، تبقى الأسئلة الكبرى: كيف يمكن لأشخاص لا يقدمون أي إسهام حقيقي في الحياة السياسية أن يظلوا جزءًا من منظومة تتعهد بخدمة المواطن؟ ولماذا يستمر المواطنون في إعادة انتخابهم رغم غياب أي أثر حقيقي لأصواتهم؟

في النهاية، تبقى مدينة الجَديدة تحت وطأة الصمت، بينما يبقى الطرمونية تحت قبة البرلمان مثل “الكرسي” الذي لا يفارقه، مهما كانت الأسباب.

ختامًا، لا يسعنى إلا أن نرفع أيدينا ونقول: “الله يعطينا زهر ولد الطرمونية”..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى