الحلقة (6): يوم برلماني لـ”فاطمة خير” يساوي سعر شُقًّة.. والأسئلة الشفوية بـ10 ملايين للقطعة!

حسين العياشي

في مسلسل تتبّع حصيلة البرلمانيين “الكسالى” تحت قبّة المؤسسة التشريعية، تتوقف عدسة المتابعة هذه المرّة عند اسم لامع في ذاكرة الجمهور أكثر مما هو لامع في محاضر الجلسات، الممثلة والنائبة البرلمانية فاطمة خير. هذه المرة، لسنا أمام برلماني شبح لا يسمع له صوت، بل أمام حالة تبدو في ظاهرها مختلفة، نائبة راكمت 20 سؤالًا شفويًا منذ بداية الولاية، قبل أن تضيف سؤالًا جديدًا بعد الضجة التي أثارتها سلسلة حلقاتنا بين أروقة البرلمان.

رقم 21 يبدو في حدّ ذاته محترمًا إذا ما قورن بنواب لم يتكرّموا على المواطن ولا حتى بسؤال واحد، لكنه سرعان ما يتحوّل إلى مجرّد خدعة بصرية سياسية حين نضعه تحت مجهر التفاصيل: الأسئلة كلها تقريبًا مكدّسة في 5 أيام فقط من أصل حوالي 1460 يومًا، وهو ما يقارب أربع سنوات أمضتها داخل الغرفة الأولى للبرلمان، أي أن التحرّك البرلماني للنائبة أقرب إلى “عمل موسمي” قصير منه إلى ممارسة منتظمة لمهام الرقابة والمساءلة.

الحسابات البسيطة لتكلفة هذا الحضور المتقطّع تكشف مفارقة صارخة؛ فأجور وتعويضات النائبة طيلة الولاية، إلى حدود اللحظة، تتجاوز 150 مليون سنتيم دون احتساب مصاريف التنقل والسفريات وباقي الامتيازات المرتبطة بالصفة البرلمانية، ما يعني أن السؤال الواحد يكلف دافعي الضرائب في المتوسط حوالي 10 ملايين سنتيم، بينما يصل ثمن اليوم البرلماني الذي تطرح فيه النائبة أسئلة إلى نحو 25 مليون سنتيم، أي ما يعادل شقة في السكن الاقتصادي.

هكذا يتحوّل شعار “العمل القليل بعائد كبير” من جملة ساخرة متداولة في الشارع إلى معادلة سياسية حقيقية تترجمها الأرقام، ويفرض سؤالًا استنكاريًا بطعم المرارة: ألا يجدر التفكير، من باب السخرية الجادة، في تعويض بعض النواب بالشقق بدل “ريع” الأجور، ما دام المواطن لا يرى من حضورهم إلا الفواتير؟

هذا النهج في الأداء، الذي يوصف داخل أروقة البرلمان على سبيل المزاح المرّ بـ”تقنية السكتة البرلمانية”، يقوم على نمط واضح، سبات دببة طويل لا تُسجَّل خلاله أي أسئلة، ثم استيقاظ مفاجئ في يوم واحد تُطرح فيه سبعة أسئلة دفعة، تليه سنة بيضاء، ثم يوم آخر في السنة التي بعدها تُسجَّل فيه ستة أسئلة في آن واحد، وهكذا دواليك.

أما سنة 2024، فتبدو إلى الآن أقرب إلى سنة إجازة برلمانية غير معلنة على مستوى الأسئلة الشفوية، إذ لم يُسجَّل فيها أي سؤال باسم النائبة البرلمانية فاطمة خير، بينما ظل الراتب الشهري وتعويضاته يتدفّقان بانتظام إلى حسابها البنكي، في انسجام تام مع جدول الأداء المالي لا مع جدول الأنشطة الرقابية.

هذا السلوك، وإن لم يشكل خرقًا للقانون أو الدستور، يطرح بحدة قضية سوء استعمال حق دستوري مهم (الفصل 100)، هو حق السؤال الشفوي، الذي تحوّل من أداة لمساءلة الحكومة وتتبع السياسات العمومية إلى نشاط موسمي يُمارس عند الحاجة إلى تجميل الحصيلة أو الرد على ضجة إعلامية.

المفارقة لا تتوقف عند عدد الأسئلة وتوقيتها، بل تمتد إلى مضمونها وطبيعة القضايا التي تتناولها؛ فالنائبة فاطمة خير التي دخلت البرلمان محمولة على رصيدها الفني، وحصدت 318.033 صوتًا في انتخابات 2021، عن جهة الدار البيضاء-سطات، بفضل صورتها كممثلة قريبة من الجمهور، لم تتقدم طيلة الولاية بسؤال واحد يخص أوضاع الفنانين، لا حول التقاعد، ولا حول المعاشات الاجتماعية، ولا حول الدعم العمومي للسينما والمسرح، ولا حتى سؤال خفيف الظل عن حال الصناعة الفنية في البلد، وكأن القطاع الذي صنعت فيه اسمها وعاشت منه عقودًا قد اختفى من خريطة اهتماماتها بمجرد ما تحوّل اللقب من “ممثلة” إلى “برلمانية”.

في سياق متّصل، نذكر أن لجنة التعليم والثقافة والاتصال عقدت أكثر من 70 اجتماعًا خلال هذه الولاية، ناقشت فيها ملفات حساسة تتعلق بالثقافة والإعلام والفن، دون أن تُسجّل مداخلات بارزة باسم فاطمة خير في هذه المحطات، على الأقل في حدود ما يتسرّب من معلومات، وهذه ضريبة أن تظل اجتماعات اللجان سرية كما اختار لها ممثّلو الأمة أن تكون.

أما خارج البرلمان، تتبدّل الصورة تمامًا؛ فحين يتعلق الأمر بالمهرجانات واللقاءات الحزبية والتجمعات السياسية، خاصة تلك التي يحضرها عزيز أخنوش، تتقدّم النائبة إلى الصفوف الأمامية، ويُفتح الميكروفون، وتُوجّه الأضواء، وتتحوّل فاطمة خير إلى خطيبة رشيقة تدافع بحماس وبارتجال عن اختيارات حزبها ورؤية حكومتها، وتقدم نفسها كفاعلة سياسية وازنة وحاضرة.

هنا تبدو دينامية الخطاب واضحة، والحضور متكرر، واللغة متدفقة، في مشاهد أقرب إلى عروض سياسية بإخراج تلفزيوني مكتمل العناصر، منصة، كاميرا، جمهور، وتغطية إعلامية. لكن هذا الزخم الخطابي خارج المؤسسة التشريعية يصطدم داخلها بجدار صمت طويل، وحصيلة تشريعية ورقابية محدودة، ما يجعل من المفارقة صارخة، في البرلمان صمت فني مدروس، في الحزب خطاب مسرحي متدفق، وفي النهاية مواطن يؤدي ثمن التذكرة كل شهر عبر الضرائب والأعباء، دون أن يضمن في المقابل خدمة تشريعية أو رقابية في مستوى ما يدفعه.

بالأرقام أيضًا، يمكن تلخيص المشهد على نحو لا يخلو من سخرية، معدل أربعة أسئلة في السنة، ويوم واحد تقريبًا في السنة يخصص لطرح ما تيسّر من الأسئلة الشفوية، بينما يبقى تأثير هذه الأسئلة على الواقع المعيشي للمغاربة سؤالًا معلّقًا بلا جواب، يتقاسمه الصمت داخل القاعة والانتظار خارجها.

نموذج فاطمة خير، في نهاية المطاف، ليس حالة معزولة بقدر ما هو جزء من ظاهرة أوسع داخل البرلمان، حيث يتعامل عدد من النواب مع الآليات الدستورية، وفي مقدمتها السؤال الشفوي، كإجراء شكلي أكثر منه واجبًا سياسيًا وأخلاقيًا مرتبطًا بتمثيل المواطنين والدفاع عن قضاياهم، فتُطرح الأسئلة في شكل دفعات موسمية، ثم يُترك مقعد الرقابة فارغًا أغلب السنة، بينما تتراكم الأزمات في الصحة والتعليم والشغل والثقافة يوميًا وباستمرار.

أمام هذا الواقع، يصبح السؤال الأعمق الذي ينبغي طرحه ليس متعلقًا بفاطمة خير وحدها، بل بوظيفة البرلمان في حد ذاتها، هل يريد المغاربة مؤسسة تشريعية تشتغل طيلة السنة، تراقب وتحاسب وتشرّع بانتظام، أم يرضون ببرلمان يشتغل فعليًا خمسة أيام كل خمس سنوات؟ الجواب لا يوجد في خطابات الأحزاب ولا في بلاغات الفرق البرلمانية، بل في صناديق الاقتراع حيث يملك الناخب وحده سلطة مكافأة هذا السلوك أو معاقبته. لكن للأسف..

وإلى أن يحين موعد هذا الامتحان الديمقراطي، وترتقي عقول الكتلة الناخبة، سيظل المشهد مفعمًا بالمفارقات الساخرة، نائبة فنانة لا تسأل عن الفنانين، برلمانيون يمارسون حق السؤال على جرعات موسمية، مؤسسة تشريعية تشتغل على الورق طيلة الولاية، لكنها في الواقع لا تتحرّك إلا نادرًا، وشعب يتابع على الشاشة ما يجري تحت القبة، ثم يكتشف في نهاية الشهر أن دوره الوحيد في هذه المعادلة هو دفع أجورهم.

في هذه الأجواء لا يبدو غريبًا أن نختم، بلسان مواطن متعب من الحسابات والوعود، بجملة تختزل المفارقة في شكل دعاء ساخر “اللهم أكثر من أسئلة فاطمة خير.. وقلّل من أيام عملها”، لأن المواطن على الأقل سيكون قادرًا حينها على احتساب التكلفة بدقة، وربما يحلم بيوم تُطرح فيه الأسئلة كما تُطرح آمال المغاربة، لا على شكل دفعة واحدة في موسم سياسي عاجل، بل بشكل يومي ومستمر، كما يليق ببرلمان يُفترض أنه ممثل الأمة لا ممثلًا في مواسم عابرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى