الحلقة (7): ثلاث ولايات برلمانية لـ”أبو الغالي” بلا أثر.. وأموال دافعي الضرائب تدفع الثمن

حسين العياشي

في كل مرة نعود فيها إلى قبة البرلمان، نشعر أننا أمام مسرح كبير تنطفئ فيه الأضواء الحقيقية حين يبدأ العرض الأهم، عرض الصمت، حيث يتحول الكلام إلى ديكور والتشريع إلى احتمال نظري، و”الغياب” إلى أسلوب حياة سياسي كامل الأركان. في هذا المسرح، يبرز اليوم اسم النائب البرلماني “صلاح الدين أبو الغالي” بوصفه أحد أبطال الملحمة الطويلة التي يمكن تسميتها دون مبالغة بـ”الغياب العظيم”.

ثلاثة ولايات برلمانية متتالية، تقارب في مجموعها 15 عامًا، حصيلتها 8 أسئلة شفوية فقط لا غير: أربعة طُرحت في عهد حكومة عبد الإله بنكيران، والأربعة المتبقية في عهد حكومة سعد الدين العثماني، ثم صمت مطبق خلال الحكومة الحالية التي يشارك فيها حزبه الذي تبرّأ منه، لا سؤال شفوي واحد، ولا كتابي، ولا حتى مساءلة، في انعدام تام لأي رقابة تذكر. صمت موزون، مدفوع الأجر، محسوب بعناية في اتجاه واحد لا غير، الاقتصاد في الجهد إلى أقصى حد، وتحويل المقعد البرلماني من موقع تكليف إلى إقامة مريحة بأجر شهري ثابت، بعيدًا عن صداع النقاشات والتصريحات والخوض في الملفات الحساسة.

لغة الأرقام هنا أكثر فصاحة من أي خطاب سياسي؛ فوفق متوسط الأجور والتعويضات البرلمانية، نحن أمام ما يقارب 50 مليون سنتيم سنويًا، على مدى حوالي أربع عشرة سنة، أي ما يناهز 600 مليون سنتيم من أموال دافعي الضرائب، صُرفت على نائب “شبح”، مقابل حصيلة رقابية وتشريعية تقترب من الصفر.

لا مبادرات نوعية، لا حضور سياسي لافت، لا أسئلة تربك الوزراء، فقط كرسي دافئ في القاعة، وأحيانًا فارغ، وبرلماني محجوب عن أنظار المواطنين إلا في الحملات الانتخابية، وناخبون كانوا يعتقدون أن لهم ممثلًا تحت القبة ليتضح في النهاية أن ما راهنوا عليه ليس سوى ظل مقعد لا ظل رجل.

في هذا السياق، يصعب اليوم مجادلة من يقول إن مقعد البرلمان أفضل وظيفة في المغرب؛ وظيفة بلا ضغط حقيقي، بلا ساعات عمل مضبوطة، بلا تقييم دوري للأداء، بلا مبدأ “الأجر مقابل العمل”، ومع ذلك مرفقة بامتيازات سخية لا يحلم بها طبيب يداوم في مستشفى عمومي، أو أستاذ يقف يوميًا كاملاً في القسم، أو مهندس يشتغل في ورشات مفتوحة، أو موظف بسيط يلاحقه رئيسه على أصغر خطأ. إنها الوظيفة التي يكفي أن يتقن صاحبها مهارة واحدة، أن يعرف كيف يسكت، وكيف يغيب ومتى يظهر، دون أن ينقطع عنه الراتب أو تنقصه الامتيازات.

صلاح الدين أبو الغالي، واحد من أولئك الذين يركضون بكل ما أوتوا من جهد وراء المقعد حين يلمع أمامهم في موسم الانتخابات، يتشبثون به كما لو كان غنيمة نادرة، يقطعون الوعود، يرفعون الشعارات، يلتقطون الصور مع المواطنين في الأسواق والأحياء، ثم ما إن يستقر المقعد تحتهم حتى يفقد معناه تمامًا ويتحول من وسيلة لخدمة الناس إلى ملكية شخصية، أو نوع من الرأسمال الرمزي والسياسي الذي يُستثمر في العلاقات والمصالح، لا في النقاشات البرلمانية.

المشهد يشبه طفلًا يصرخ بإلحاح من أجل لعبة جديدة، وما إن يحصل عليها حتى يفقد اهتمامه بها ويرميها في زاوية معتمة من الغرفة. المقعد بالنسبة لهذا النموذج من البرلمانيين ليس أداة تمثيل سياسي بل غنيمة انتخابية، وعنوانًا اجتماعيًا، وبطاقة عبور إلى عالم النخبة، لا أكثر.

وكلما تعمقنا في أرشيف البرلمان ونبشنا في سجل الأسئلة والمداخلات والحضور، كلما بدت لنا نظرية عبد الإله بنكيران حول “العفاريت والتماسيح” أقل سريالية وأكثر واقعية؛ فهناك فعلًا مخلوقات سياسية لا تُرى للمواطن، لا يسمع لها صوت في الجلسات العامة، ولا يقرأ لها أثرًا في محاضر اللجان، لكنها تعرف جيدًا كيف تحافظ على مواقعها لعقود طويلة، وكيف تعبر من ولاية إلى أخرى بأقل مجهود ممكن، اعتمادًا على شبكة من الولاءات المحلية والانتخابية والرمزية.. نقطة إلى السطر.

السؤال المخجل هنا هو كيف يتمكن نائب بهذه الحصيلة الهزيلة من العودة إلى البرلمان مرة تلو أخرى؟ أبو الغالي مثال صارخ على هذه الظاهرة؛ فرغم الأداء البرلماني شبه المنعدم، أعادته ساكنة مديونة إلى القبة مرة ثانية وثالثة، وحصل في انتخابات 2021 على 13029 صوتًا وضعته في المرتبة الثانية داخل دائرته، وكأن الرسالة الضمنية تقول: “نريد المزيد من الكائنات الإنتخابية الصامتة”.

وتأتي المكافأة على شكل ولاية جديدة، ونائب لا يطرح سؤالًا واحدًا في الولاية الحالية، ومع ذلك يحتفظ بمقعده كأنه قدر مكتوب لا فكاك منه. وإذا كان للرجل أولويات أخرى خارج البرلمان، أو انشغالات مهنية وسياسية أكثر إغراء من حضور الجلسات ومساءلة الوزراء، فلماذا لا يستقيل ويفتح المجال أمام وجه جديد قادر على الكلام؟ لا أحد يمكنه أن يدعي أن النائب في حاجة إلى تعويض البرلمان لتسديد فواتير الماء والكهرباء؛ فالمسألة أبعد من المال، هي مسألة عقلية ووعي وظيفي: هل يدرك النائب فعلًا أنه يمثل الأمة؟ هل يشعر بثقل المسؤولية المرتبطة بصوته وصمته داخل القاعة؟ أم أن التمثيل هنا لا يعدو أن يكون تمثيلًا شكليًا، يشبه حضور الاسم في اللائحة أكثر مما يشبه حضور صاحبه في الميدان؟

في العمق، المشكلة تتجاوز صلاح الدين أبو الغالي وغيره من النماذج الفردية، لتطرح سؤالًا أكبر حول علاقة البرلمان بالمجتمع. فالبرلمان، في النهاية، مرآة تعكس جزءًا من صورة هذا المجتمع، ونحن في كثير من الأحيان نهرب من النظر في المرآة لأن الصورة قاسية.

هل يعقل أن بلدًا يضم حوالي 38 مليون مواطن، عاجز عن إفراز 395 نائبًا يحملون صوته فعليًا، يطرحون الأسئلة كل أسبوع، يناقشون القوانين بندًا بندًا، يهزون جدران القبة بنقاش حقيقي حول التعليم، الصحة، التشغيل، العدالة والكرامة؟ هل يُعقل أن أهم قانون في البلاد، قانون المالية الذي يحدد خلال سنة كاملة مصير كل قطاع من القطاعات، يمرّ في قاعة شبه فارغة لا يحضر فيها إلا عدد محدود من النواب، بينما الباقون غائبون أو حاضرون جسديًا وغائبون سياسيًا؟

هذا الغياب ليس مصادفة ولا مجرد سوء تنظيم إداري؛ إنه انعكاس مباشر لمستوى الوعي بالأدوار ولطبيعة العلاقة التي بناها جزء من الطبقة السياسية مع المؤسسات، حيث يتحول المقعد إلى هدف في حد ذاته، لا إلى وسيلة للعمل، وحيث يصبح الوصول إلى البرلمان نهاية الطريق لا بدايته. كم من برلماني وجد نفسه داخل القبة فقط لأنه يمتلك رصيدًا محليًا أو شبكة انتخابية، لا لأنه يمتلك تصورًا تشريعيًا أو قدرة على الأداء الرقابي، وكم من ناخب اختار مرشحه بناء على الولاء العائلي أو القبلي أو الحزبي، لا بناء على برنامجه وقدرته على الترافع.

في قلب هذه الحكاية بكل فصولها، تظل أسئل تطاردنا بإلحاح: هل يستحق المواطن المغربي أن يُمثَّل بهذه الطريقة؟  هل يستحق أن يدفع من ضرائبه ومن جهده اليومي ثمن مقاعد يشغلها أشخاص لا يتكلمون باسمه ولا يسألون باسمه ولا يتعبون بالقدر الذي يتعب فيه هو في طابور المستشفى والمدرسة والإدارة؟

أم أننا، من حيث لا ندري، بدأنا نتعايش مع هذا الصمت ونقبله كأنه صوت سياسي معقول، واعتدنا على برلمان الدور الواحد، كثير من الحركة في موسم الانتخابات، وصمت رهيب في باقي المواسم؟ إذا كان البرلمان مرآة، فربما آن الأوان أن ننظر فيها جيدًا، لا لنلعن الصورة، بل لنفهم كيف وصلت إلى هذا الشكل، ومن يملك حق تغييرها، وكيف يمكن الانتقال من تمثيل صامت إلى تمثيل ناطق، ومن غياب طويل الأمد إلى حضور يُشعر المواطن أن صوته لم يذهب هباءً، وأن المقعد لم يتحول مرّة أخرى إلى لعبة جديدة تُرمى في زاوية معتمة بعد انتهاء العرض..

وتستمر دروس سلسلة الحصيلة البرلمانية.. على أن تنير العقول وتستوعب عبرها النفوس..

موعدنا غدًا، على نفس التوقيت (الثامنة مساءًا)، مع ضيف ثقيل من طينة أخرى.

يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى