الحلقة (8): التجمعية “نادية بوعيدا” حصيلة بصفر سؤال.. حين تصبح “الكوطة” النسائية مرآة بلا انعكاس

حسين العياشي

حين ندخل باب البرلمان من جديد، نشعر وكأننا أمام خشبة مسرح تتكرر عليها نفس المشاهد، نفس الوجوه، ونفس الصمت الذي أصبح جزءًا من ديكور القاعة. صمت يُدار بعناية أكبر من إدارة النقاشات، وحضور رمزي أقوى من كل خطابات الإصلاح والتمثيلية والمساواة. وفي قلب هذا المسرح، تبرز اليوم شخصية النائبة البرلمانية عن دائرة كلميم واد نون، ناديا بوعيدا، التي تحضر بلا صوت، وتُمثِّل بلا سؤال، وتشارك بلا أثر.. أربع سنوات كاملة من الولاية التشريعية، بحصيلة رقابية شفوية تساوي (0) صفرًا كبيرًا.

والمفارقة الأكبر أن هذا الغياب ليس مجرد صدفة عابرة؛ بل يأتي في سياق نظام انتخابي صُمّم خصيصًا لضمان حضور النساء داخل البرلمان عبر اللائحة الجهوية المخصّصة لهن. نظام وُضع لأن الدولة قالت يومًا: “لا يمكن للبرلمان أن يستمر كغرفة رجالية مغلقة”، ثم قدّم للنساء مقاعد جاهزة، قائلاً لهن: “تفضّلن.. الباب مفتوح”. لكن بعد فتح الباب، اكتشفنا أن بعض الكراسي دخلتها أجساد بلا أصوات، ووجوه بلا أثر، وتمثيلية بلا مضمون.

ولنكن واقعيين:
لولا اللائحة الجهوية، لما كانت أغلب النساء تحت القبة اليوم، لأن الدوائر المحلية حُسمت تقريبًا كلها لصالح الرجال.
لكن بدل استثمار هذا “التمييز الإيجابي” لتصعيد نساء قادرات على الترافع، وجدنا أنفسنا أمام نموذج آخر: نائبات يمارسن حضورًا بروتوكوليًا يشبه العمل الشرفي أكثر مما يشبه الفعل السياسي.

فما معنى أن تمنحك الدولة مقعدًا جاهزًا، وتجعل منك ممثلة لجهة بكاملها، ثم لا تجدين موضوعًا واحدًا يستحق سؤالاً؟
هل كلميم–واد نون بلا مشاكل؟
هل التنمية اكتملت؟
هل المستشفى الجهوي أصبح مرجعًا؟
هل التعليم بخير؟
هل البطالة اختفت من الوجود؟
هل البنية التحتية سحرية؟
هل ملفات العقار والأراضي السلالية تبخرت؟
هل شبكات الفساد صارت مجرد قصص تراثية؟

إن كان الأمر كذلك، فربما علينا إرسال بعثة رسمية من البرلمان المغربي إلى كلميم–واد نون لتتعلم من هذه الجنة الخفية التي لم تحتج سؤالًا واحدًا في أربع سنوات. الحقيقة، أن غياب السؤال ليس دليلاً على غياب المشاكل…
بل على غياب من يطرحها. والصمت هنا ليس مجرد “احترام للنظام الداخلي”، بل هو أسلوب حياة سياسي جديد “التمثيل الصامت”.

برلمانيات وبرلمانيون يتعاملون مع المقعد كما لو كان بطاقة VIP: تدخل بها، تجلس في الصف الأمامي، تبتسم، تلتقط صورة، ثم تغادر.. دون أن تزعج أحدًا بسؤال أو ملف أو مساءلة. إنه النوع ذاته من التمثيل الذي يشبه حضور موظف إلى عمله يوميًا فقط ليوقّع في دفتر الحضور.. دون أن ينجز ورقة واحدة. أو لاعب كرة يُؤتى به من أجل تعزيز الصورة في الفريق، لكنه يمضي موسمين كاملين دون أن يلمس الكرة.

ووسط هذا المشهد المحزن، نجد أنفسنا مجددًا أمام السؤال الأخلاقي الأكبر: هل نريد تمثيلية نسائية.. أم نريد نساءً فاعلات؟
لأن الأولى تلميع، والثانية سياسة. الأولى صورة، والثانية دور. الأولى زينة مؤسساتية، والثانية تغيير.

فما جدوى أن يرتفع عدد النساء داخل البرلمان إن كانت أصواتهن لا ترتفع؟ وما قيمة تخصيص اللوائح الجهوية لهن إن كان المقعد يتحول إلى مجرد “إحصائيات” تقدم للمنظمات الدولية؟ وما أهمية الدفاع عن حضور المرأة في المؤسسات إن كانت بعض النائبات أنفسهن لا يدافعن عن حضورهن؟

إن ليس هذا انتقاصًا من النساء.. بل انتقاص من التمثيل الخالي من المساهمة، سواء أكان صاحبه رجلًا أم امرأة.
لكن في حالة اللائحة النسائية، يصبح السؤال أكثر إحراجًا لأن الفكرة الأصلية كانت: “نعطيكن المقعد حتى تسمعوا صوتكن”.
وها نحن اليوم أمام نائبة لم تُسمع كلمة واحدة.

ولأن المشهد لا يكتمل دون مملّحات، دعونا نتخيل الأمر كالتالي: ولو كان غياب النائبة يلغي تعويضها الشهري، لربما كانت ستتحول الجلسة العامة إلى منتدى عالمي.. حضور كامل، وميكروفونات مشتعلة، وأسئلة تُلقى بسرعة الضوء، وربما كنا سنسمع لأول مرة برلمانيين ينافسون المذيعين في سرعة الكلام خوفًا من قطع الصوت.

لكن بما أن المقاعد مضمونة، والتعويضات ثابتة، والتقييم منعدم، فالصمت يصبح خيارًا مريحًا.. بل ورفاهية سياسية لا يحظى بها سوى نوابنا الكرام. إننا اليوم أمام مرآة، لا تعكس وجه النائبة وحدها، بل وجه منظومة كاملة، تضع مقاعدًا للنساء داخل البرلمان.. ثم تقبل منهن الغياب، وكأن الهدف ليس التغيير بل تحسين “صطاتيستيك” لا أكثر ولا أقل.

وإذا كان البرلمان مرآة المجتمع، فربما علينا أن نسأل أنفسنا: هل نحن فعلًا مجتمع يريد صوت المرأة.. أم مجتمع يكتفي بوجودها الرمزي؟

وفي انتظار أن نرى نائبات قادرات على إحداث الفرق، نواصل رحلة الكشف والتعرية، حلقة بعد حلقة، حتى نفهم كيف تحول البرلمان إلى مكان يُقاس فيه العمل بالصمت، وتُقاس فيه الكفاءة بعدد الابتسامات في الصور الرسمية.

موعدنا غدًا، على نفس التوقيت: الثامنة مساءً.
مع حالة جديدة.. قد تكون أكثر غرابة، أو أكثر صمتًا، أو أكثر كلفة على جيوب هذا الشعب الصبور.

يتبع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى