الخلط بين الوطن والدولة: وهم رمزي ينتج وعيا زائفا

فؤاد يعقوبي مختص في علم النفس الإجتماعي في السياق المغربي.
في زمن تتسارع فيه وتيرة الإلتباس الرمزي، تصبح الحاجة ماسة إلى تفكيك مفاهيم يراد لها أن تُؤخذ كمسلمات. ومن أبرز هذه المفاهيم: (الوطن)و (الدولة)، إذ غالبا ما يتم التلاعب بهما في الوجدان الجمعي حتى يغدو التمييز بينهما فعلا شبه تخريبي في نظر البعض، رغم أنه ضرورة معرفية ونفسية.
في علم النفس الاجتماعي، يمثل الوطن تجربة وجدانية متجذرة في اللاشعور الجمعي، لا تختبر فقط من خلال الشعارات، بل تعاش: الوطن هو اللغة الأولى، الذاكرة الحسية، الحنين، والشعور بالانغراس داخل جماعة ننتمي إليها دون حاجة لتبرير. إنه جزء من تكوين الذات العميق، وعاطفة تتكون قبل أن يفهم الإنسان معنى السياسة أو الإدارة.
أما الدولة، فهي بنية عقلانية إجرائية، تقوم على منطق التنظيم والضبط والتوزيع المؤسساتي للسلطة. فالدولة ليست كيانا وجدانيا، بل جهازا وظيفيا، قابلا للنقد والمساءلة، لأنها ببساطة تنتج وتدار من قبل بشر يخطئون، ينحرفون، ويفسدون، وقد يخونون…وهنا يكمن الفرق الجوهري: الوطن لا يُحاسَب، ولكن وبالتأكيد الدولة تُحاسب، ولكن بآليات منطقية وبعقلانية وبغيرة إيجابية لا تمس بمقدساتها بقدر ما تنسجم مع إشارات ملكها.
إن الخطورة النفسية على الأفراد داخل المجتمع المغربي تكمن في اللحظة التي يتم فيها دمج الرمزين في وعي الناس: حين يُقدَّم نقد الدولة كخيانة للوطن، أو يُفرض الولاء للدولة باعتباره شرطا لحب الوطن . هذا التداخل غير البريء يُنتج تشوشا إدراكيا في الوعي الجمعي، ويعطل الحس النقدي . إنه أحد أدوات الاستغلال الأيديولوجي للشعور الوطني، حيث يتم تسليح العاطفة لخدمة السلطة .
ومن منظور علم النفس الاجتماعي، هذه الحالة تسهم في خلق علاقة مرضية بين الفرد والمؤسسات، علاقة تقوم على الخوف والارتباك، لا على الفهم والمساءلة. إنها بيئة خصبة لتكريس الطاعة العمياء والتضييق على التعبير، باسم رمزية الوطن.
إن النضج المدني يبدأ من الاعتراف بأن حب الوطن لا يعني التسامح مع عبث من وكلة لهم أمور الدولة. بل إن أقوى صور الانتماء تتجلى في القدرة على نقد الدولة من أجل الوطن. في أن نطالب بدولة أكثر عدلا، لا لأننا نرفض الوطن، بل لأننا نحبه بصدق لا يرضى بالرداءة، ولا يصمت عن الجور كما جاء في خطابات الملك.
إن تفكيك الخلط بين الدولة والوطن لم يعد ترفا فكريا، بل ضرورة ملحة لإعادة بناء علاقة سوية بين المواطن ومحيطه الرمزي والمؤسساتي. فالوطن يُعاش… أما الدولة فتُحاسب.