
د. محمد شقير
صادقت اللجنة الحكومية لصون التراث غير المادي، التابعة لمنظمة اليونيسكو، يوم الأربعاء 10 دجنبر 2025 بالهند، على ملف تقدمت به المملكة المغربية لتسجيل القفطان المغربي تراثاً عالمياً بمنظمة اليونسكو. حيث سبق للمغرب أن تقدم بملف متكامل يضم عناصر مهمة تبرز غنى وتطور التراث الثقافي غير المادي المرتبط بالقفطان.
وسهرت على هذا الملف كل من وزارة الشباب والثقافة والتواصل، والمندوبية الدائمة للمغرب لدى منظمة اليونسكو بباريس. إذ يعد القفطان المغربي أكثر من مجرد لباس؛ فهو ليس فقط رمزاً حياً للهوية المغربية، يتم تناقله من الأم إلى الابنة، ومن المعلم إلى التلميذ، منذ أكثر من ثمانية قرون، بل شكل أيضاً أحد شارات الحكم وأبهة السلطة في التاريخ السياسي للمغرب.
فقد اعتبر اللباس، بما فيه القفطان، من أهم وسائل رسم معالم السلطة وشاراتها السياسية بالمغرب. وقد خضع ذلك لتقاليد متوارثة همت الخلع والإنعام والإحسان والعطاء، كما ارتبطت بالإمكانيات المادية للدولة، وإصرار السلاطين على أن يكتسي ملكهم طابعاً من الرفعة والسمو ويزداد به بهاء وبهجة وهيبة.
أولاً: فخامة اللباس السلطاني
أشار ابن خلدون في مقدمته إلى ما يلي: «اعلم أن للسلطان شارات وأحوالاً تقتضيها الأُبّهة والبذخ، فيختص بها ويتميز بانتحالها عن الرعية والبطانة وسائر الرؤساء في دولته. فحسن الزي تعظيم للأمر، وتفخيم له، به ترسيخ هيبة الدولة، وتضفي عليها طابع الإجلال والوقار، وهو جزء لا يتجزأ من مراسم أخرى تشمل المراكب، وآلة الحرب، والألوية وغيرها».
وبالتالي، فقد حرص السلاطين، خاصة في عهد المرينيين والسعديين، على إحاطة حكمهم بمظاهر الأبهة والفخامة بما في ذلك الثياب التي كانوا يلبسونها. ولعل مما يوضح ذلك ما أشار إليه المؤرخ اليفرني حول تأثر السعديين بالمراسيم المرينية، إذ كتب بهذا الصدد ما يلي:
«لما دخل الشيخ، أي محمد الشيخ السعدي، حضرة فاس، دخلها وعليه وعلى أصحابه الدراعات الصفر وسِمَة البداوة لائحة عليهم، فحملوا أنفسهم على التأدب بآداب الحاضرة والتخلق بأخلاقهم حتى رسخ فيهم ذلك…» مضيفاً في هذا السياق: «إن ملك السعديين إنما تأنق على يد رجل وامرأة؛ فأما الرجل، فقاسم الزرهوني، فإنه رتب للسلطان أبي عبد الله الشيخ هيئة السلاطين في ملابسهم ودخولهم وخروجهم وآداب أصحابهم، وكيفية مثولهم بين أيديهم.
وأما المرأة، فالعريفة بنت خجو، فإنها علمته سيرة الملوك في منازلهم وحالاتهم في الطعام واللباس وعاداتهم مع النساء وغير ذلك، فاكتسى ملك الشيخ بذلك طلاوة، وازداد في عيون العامة رونقاً وحلاوة بسبب جريانه على العوائد الحضرية».
ثانياً: القفطان السلطاني والتمييز السياسي
بالإضافة إلى ما ذكره ابن خلدون من حرص السلاطين المرينيين على أن توشم ملابسهم بأسماء خاصة بهم فيما أسماه بـ«الطراز»، فقد اتخذ السلطان أبو عنان لباساً أبيض شعاراً للدولة، وكان يلبس فوقه «المصفح» الملوكي إضافة إلى «غفار» حمراء. والمصفح عبارة عن صدار من الصفائح المعدنية المثبتة فوق نسيج خاص لحماية جسد المحارب من الضربات، ويسمى أيضاً «الجوش».
كما وصف أحد مرافقي السفير الإسباني في مهمة رسمية للسلطان المنصور الذهبي، بعد موقعة وادي المخازن، أن «الملوطة» هي لباس مطابق للقفطان، تزيا بها القائد المعروف بالمنصور، المكلف من قبل السلطان أحمد المنصور الذهبي باستقبال وفود السفارات الأجنبية بمدينة آسفي، وشغل مهمة قائد الموكب، المعروف بقائد الرحى.
اتخذها من المخمل القرمزي (القطيفة)، ولبس تحتها قفطاناً آخر من الدمقس، وهو نسيج مشجر بلون أخضر، قد يكون نوعاً من الحرير، وتقلد سيفاً محلى بالذهب ومرصعاً بالجواهر ومثبتاً على محمل من النسيج الذهبي. وعلى طول الرحلة من مدينة آسفي إلى مدينة مراكش، كان القائد المنصور يغير ملابسه باستمرار، فيضع على جسده ملوطة من الديباج المذهب تتخلل نسيجه جدائل من الحرير، وأزياء أخرى فاخرة. وأثناء دخول الموكب مدينة مراكش، يغير الملوطة بأخرى من نسيج فضي، وقد تميزت القاعة التي استقبل فيها السلطان السعدي هذا السفير بحضور عشرة قواد، وحارسين لأبوابهما، عليهما اللباس المعروف بالملوطة، ويفيد القفطان.
وقد بقي التأثير التركي في لباس السلاطين حاضراً بقوة حتى في عهد السلاطين العلويين؛ فقد ذكر المؤرخ ابن زيدان أن «السلطان المولى الرشيد… كما كان جرياً على عادة السادة من علية القوم من الأتراك أنيق المظهر، رائق القوام، يرتدي قفطاناً جميلاً ويغطي رأسه بطربوش تحيط به عمامة ملفوفة، ويحتذي بلغة حمراء، ويتقلد سيفاً وخنجراً». وكان خلفه السلطان المولى إسماعيل بدوره يرتدي زياً أقرب ما يكون إلى لباس الأتراك.
كما أن «السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وابنه الأمير مولاي عبد السلام، وباقي الأسرة السلطانية، كانوا كلهم يرتدون القفاطين ذات الألوان الزاهية والحواشي الناعمة، ويغطون رؤوسهم بالعمائم الموسومة بأشرطة الحرير».
ثالثاً: المضمة السلطانية وتكريس الزعامة السياسية
تميز السلاطين المرينيون بأحزمة خاصة ومميزة، خاصة أثناء قيادتهم للجيش ورئاسة الحملات العسكرية، سواء في مواجهة تمردات القبائل أو في مواجهة الجيوش الأجنبية بالمنطقة المغاربية أو بشبه الجزيرة الإيبيرية. فبصفة السلطان قائداً للجيوش، كان يشد وسطه بحزام أو «مضمة» من الفضة أو الذهب، والتي كانت لا تُشد إلا في الحرب أو يوم «التمييز»، الذي يستعرض فيه السلطان الفرق العسكرية التي يتكون منها جيشه.
ونظراً لصنعها من الفضة والذهب، فقد كان وزنها ثقيلاً، غير أن مظهرها كان مثيراً ولافتاً، إذ كانت تزين ببعض الأحجار الكريمة كالياقوت واللؤلؤ. ولعل هذا ما كان يضفي على السلطان هالة عسكرية خاصة تميزه عن باقي القواد ورؤساء الجيش. فقد كانت هذه المضمة بمثابة تكريس للقيادة العليا للجيش السلطاني، فيما يشبه النياشين التي كانت تميز ماريشالات الجيوش الحديثة عن باقي الجنرالات. فلَمعان هذه المضمة وقيمتها المادية المتجلية في صنعها من الذهب والفضة يكرسان تميز السلطان داخل هرمية الجيش. وقد اقتبس السلاطين السعديون هذه الموضة في اللباس وعملوا على تطويرها.
وهكذا، تميز السلطان المنصور الذهبي باتخاذه القفطان، الذي هو معطف طويل بأكمام طويلة، وفوقه شبه معطف آخر خفيف يغلق بأزرار ويسمى بـ«المنصورية»، نسبة إلى اسم هذا السلطان الذي ابتكرها. وللتغلب على فضفضة اللباس، الذي لا يساعد على خفة الحركة، استعملت «المضمة» (هذا الحزام العريض الذي يضم الجسم ضمّاً).





