المنتصر بالله: القضاء يُعيد تعريف “الحرية المحروسة” بعدالة تُنصف الطفل والضحية

حسين العياشي
بلهجة هادئة وواثقة، وضع الأمين العام للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، منير المنتصر بالله، ملامح رؤيةٍ قضائية تُواكب ورش “الحرية المحروسة” وتُرسّخ عدالةً صديقةً للأطفال، مؤكداً أنّ استقلال القضاء لا يتعارض مع روح التنسيق، وأن صيانة حقوق الطفل تبدأ من قاعة الجلسة ولا تنتهي عندها. ففي كلمته خلال اليوم الدراسي المنعقد بسلا، دعا إلى تحويل هذا الورش من نقاشٍ تقني إلى تعاقدٍ مؤسساتي واضح، تُقاس نتائجه بمؤشرات ملموسة، وتُشرف عليه آليات للحكامة تضمن وحدة المرجعية وسرعة التفعيل.
شدّد الأمين العام على أنّ الفلسفة المؤطرة لقضاء الأحداث تقوم على ثلاث ركائز: ضمانات المحاكمة العادلة بعيونٍ تراعي سنّ الطفل ودرجة نضجه، وتدرّجٌ في التدخل يُغلّب البدائل التربوية على سلب الحرية، ومساواةٌ في الولوج إلى خدمات المواكبة أينما كان الطفل، في الحواضر والقرى سواء. وأوضح أنّ “الحرية المحروسة” ليست تساهلاً مع المخالفة، بل مساراً يوازن بين المسؤولية والحماية، ويُبقي خيط الثقة موصولاً بين الطفل وأسرته ومدرسته ومجتمعه.
وانتقل إلى التطبيق، فلفت الانتباه إلى مكامن هشاشةٍ لا بدّ من معالجتها: تباين الممارسات بين الدوائر القضائية، تفاوت جودة تقارير البحث الاجتماعي، وتداخل الأدوار بين المتدخلين. ومن موقع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، أعلن دعم توحيد المرجعيات المهنية عبر دلائل عملية لقضاة الأحداث وقضاة النيابة العامة، وتكثيف التكوين المستمر في مجالات علم نفس الطفولة والعدالة التصالحية وأساليب التقويم التربوي، حتى لا يبقى الاجتهاد رهيناً بتجارب فردية متفرقة.
ورأى أنّ النجاح يقتضي بناء جسورٍ حية بين المحكمة ومحيط الطفل، عبر مسارات إحالة واضحة إلى مؤسسات الرعاية والإدماج، وإشراك الوسطاء الاجتماعيين والمربين بطريقة منظمة وموثقة. كما دعا إلى توسيع دائرة الحلول غير الاحتجازية: خطط مصاحبة فردية موقّعة ومضبوطة الآجال، خدمات للدعم النفسي والإرشاد الأسري، أشغال ذات نفع عام تراعي السن والحماية، وممارسات للعدالة التصالحية تُعطي للضحية صوتاً ولجبر الضرر معنىً يحفظ الكرامة.
ولأن الحكم الرشيد يقوم على المعلومة الدقيقة، أكّد أهمية منصة رقمية مشتركة لتتبع مسارات الأطفال منذ أول إجراءٍ إلى غاية الإقفال والإدماج، بما يتيح قياس معدلات العود وتقييم نجاعة التدخلات على أساسٍ علمي. البيانات، كما قال، ليست للزينة الإحصائية، بل بوصلتنا لتصويب القرار وتوجيه التمويل العمومي نحو ما يثبت أثره.
وفي جوهر الرسالة، ذكّر بأن الطفل المخالف للقانون ليس خصماً للمجتمع، بل مشروع مواطن يحتاج إلى فرصةٍ منصفة. وعليه، فإن صرامة القضاء تُمارَس بحكمة، والردع يُصاحبه تأهيل، وحقوق الضحية تُصان دون أن تتحول إلى حجابٍ يحجب حاجات الطفل إلى الحماية والتقويم. بهذه المعادلة يتجسد المعنى الحقيقي لعدالةٍ إنسانيةٍ رفيعة تُعيد بناء الثقة ولا تكتفي بإصدار الأحكام.
وختم الأمين العام بدعوةٍ عملية إلى تحويل توصيات اليوم الدراسي إلى خطة تنفيذية محددة المراحل والمسؤوليات، تُعلن للعموم وتُراجع دورياً بشفافية، على قاعدة شراكةٍ مؤسسية تجمع القضاء والقطاعات الاجتماعية والصحية والتربوية والهيئات الحقوقية. فحين تصبح “الحرية المحروسة” مساراً محكماً للحماية والمواكبة، تُستعاد كرامة الطفل، وتتعزز ثقة المجتمع في منظومة عدالةٍ قريبة من الناس، سريعة في التدخل، دقيقة في القياس، وعادلة بقدر ما هي رحيمة.
				




