
حسين العياشي
منذ بداية الألفية، رسم المغرب مسارًا تصاعديًا في مؤشرات التنمية البشرية، لكن خلف الأرقام الوردية تختفي اختلالات عميقة تنذر بتكريس واقع “المغرب بسرعتين”. هذا ما خلص إليه تقرير مرجعي للمندوبية السامية للتخطيط، يغطي الفترة ما بين 2000 و2023، والذي جاء صداه متقاطعًا مع الخطاب الملكي في ذكرى عيد العرش (29 يوليوز 2025)، حين شدد جلالة الملك محمد السادس على أنه “لا مكان، لا اليوم ولا غدًا، لمغرب يتحرك بسرعتين”.
الأرقام تبدو لافتة: مؤشر التنمية البشرية بلغ 0,710 سنة 2023، مما وضع المغرب ضمن خانة الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة. أمد الحياة ارتفع بأكثر من عشر سنوات منذ 1990، والدخل الفردي تضاعف، فيما انخفضت نسبة الفقر المدقع إلى أقل من 0,3% سنة 2022.
لكن خلف هذه الصورة المشرقة، يطل واقع آخر. القدرة الشرائية تباطأت بشكل مقلق: من معدل نمو سنوي يناهز 2,8% خلال العقد الأول من الألفية، إلى 1,1% فقط ما بين 2010 و2023. أزمات متلاحقة – الجائحة، التضخم، والجفاف – زادت الطين بلة، فارتفع معدل الفقر المطلق من 1,9% سنة 2019 إلى 3,9% سنة 2022، أي أن عدد الفقراء تضاعف ليصل 1,42 مليون شخص.
الأدهى أن مؤشر “جيني” الذي يقيس الفوارق في توزيع الدخل عاد في 2022 إلى نفس مستواه في 2001 (40,5%)، بعد تحسن عابر. كما كشف التقرير عن تحول نوعي للفقر: لم يعد لصيقًا بالقرى فحسب، بل تسلل إلى المدن، حيث ارتفعت نسبة المعرضين للفقر من 7,3% إلى 12,9% خلال ثلاث سنوات فقط.
التفاوتات لا تقتصر على الجغرافيا بل تطال أيضًا النوع الاجتماعي. رغم ارتفاع نسب تمدرس الفتيات، إلا أن المشاركة الاقتصادية للنساء ما تزال متوقفة عند 19% مقابل 70% للرجال، ما جعل مؤشر التنمية المرتبط بالنوع لا يتجاوز 0,859.
وحتى في ما يخص الفقر متعدد الأبعاد، الذي تراجع من 11,9% سنة 2014 إلى 6,8% سنة 2024، فإن 72% منه يتمركز في الوسط القروي. النقص في التعليم يمثل نصف هذه الوضعية تقريبًا (47,5%)، متبوعًا بالصحة (30,5%) وظروف العيش (22%).
المندوبية السامية للتخطيط لم تكتف بالتشخيص، بل دعت إلى جيل جديد من السياسات العمومية، قوامه الترابية، الشفافية، والمشاركة المواطنة، مع استثمار المعطيات الإحصائية لتوجيه القرارات. واعتبرت أن النموذج التنموي الجديد مطالب بإعادة التوازن بين المجالات الحضرية والقروية، بين الرجال والنساء، وبين الفئات الهشة والأكثر حظوة.
الخلاصة الصادمة أن مؤشر التنمية البشرية المعدل حسب اللامساواة (IDHI) ينخفض إلى 0,517، أي بخسارة تصل إلى 27% مقارنة بالمؤشر الخام. ما يعني أن التقدم الإجمالي يخفي فجوات عميقة داخلية.
التقرير يضع المغرب أمام سؤال جوهري: كيف نضمن أن لا يتحول النمو إلى خط فاصل بين مغربين؟ مغرب يستفيد من ثمار التنمية، وآخر يظل عالقًا في الهشاشة والتهميش.





