المندوبية تكشف فجوة صارخة في نصيب الفرد من الناتج الداخلي بين الجهات

حسين العياشي

على الرغم من تحقيق الاقتصاد الوطني نمواً قدره 3,7% خلال 2023، تكشف الحسابات الجهوية، التي قدمتها المندوبية السامية للتخطيط، صورة أقل تفاؤلاً: خلف المتوسط المطمئن تتسع فجوات بين الجهات، وتتركز الثروة في محاور محدودة، فيما تتعثر جهات أخرى أو تنكمش، وتشتد لا مساواة الدخل والإنفاق بين المغاربة بحسب موقعهم الجغرافي. هذه المعطيات تُظهر أن “التوازن” الوطني يخفي اختلالات بنيوية على المستوى الترابي.

التباين يبدأ من وتيرة النمو نفسها. صحيح أن خمس جهات حققت أداء يفوق المعدل الوطني، غير أن جهتين سجلتا انكماشاً صريحاً، وهما بني ملال–خنيفرة (-1,3%)، والجهة الشرقية (-1%)، في مؤشر على هشاشة قاعدتهما الإنتاجية، خاصة مع الارتباط الشديد بالدورة الفلاحية وتقلباتها المناخية. وبينهما، تمضي جهات أخرى بنمو ضعيف دون المتوسط، ما يعني أن “تعافي” 2023، لم يكن شاملاً ولا موزعاً بعدالة على خريطة البلاد.

أكثر من ذلك، تستمر الثروة الوطنية في التمركز داخل ثلاثة أقطاب كبرى، بدءًا بجهة الدار البيضاء–سطات، الرباط–سلا–القنيطرة، وطنجة–تطوان–الحسيمة، بحصة إجمالية تبلغ 58,5% من الناتج الداخلي الإجمالي بالأسعار الجارية، مع احتفاظ الدار البيضاء وحدها بنحو ثلث الثروة (32,2%). هذه المركزية لا تبقى بلا كلفة، فمتوسط الفارق المطلق بين الناتج الداخلي الجهوي ومتوسطه الوطني قفز من 73,3 مليار درهم في 2022، إلى 83,1 مليار درهم في 2023، ما يعني اتساع فجوة “الحجم الاقتصادي” بين الجهات بدلاً من تضييقها.

تركيب النسيج الإنتاجي يزيد المشهد حدة، فعلى المستوى الوطني لا تتجاوز مساهمة القطاع الأولي 11,1%، لكن جهات عديدة تعلو هذا السقف بكثير، مثل فاس–مكناس 25,8%، ودرعة–تافيلالت 19,8%، وسوس–ماسة 18,6%/، والداخلة–وادي الذهب 17,3%.

هذا الاعتماد العالي على الفلاحة والصيد، يجعل هذه الجهات رهينة للمخاطر المناخية وتقلب الموارد المائية. في المقابل، يتركز قلب الصناعة في جهتين أساسيتين: الدار البيضاء–سطات (حصة القطاع الثانوي 37%) وطنجة–تطوان–الحسيمة (34,3%)، بينما يميل معظم النسيج الجهوي إلى هيمنة الخدمات، ما يسلط الضوء على هشاشة التنويع في مناطق واسعة من البلاد.

الفوارق تبدو أفدح حين ننتقل إلى نصيب الفرد، المعدل الوطني لنصيب الفرد من الناتج الداخلي الإجمالي بلغ 40.508 دراهم، لكن الفجوة بين القمم والقيعان صارخة جدًا، 89.533 درهماً في الداخلة–وادي الذهب مقابل 25.324 درهماً فقط في درعة–تافيلالت. وليس الأمر ثابتاً، خاصة وأن تشتت نصيب الفرد زاد أيضاً، إذ ارتفع متوسط الفارق المطلق من 13.886 درهماً إلى 15.064 درهماً بين 2022 و2023. هذه الأرقام لا تعني تفاوتاً في “وتيرة التحسن” فحسب، بل اختلافاً عميقاً في مستويات العيش وفرص الارتقاء الاقتصادي من جهة إلى أخرى.

حتى دينامية الطلب الداخلي، التي يُفترض أن تُسند النمو عبر الاستهلاك الأسري، تعكس بدورها التركز واللاتوازن. فخمـس جهات وحدها استحوذت على قرابة ثلاثة أرباع إنفاق الأسر 74%، تتصدرها الدار البيضاء–سطات بربع الكعكة الوطنية تقريباً 25%.

أما على مستوى الفرد، بلغ متوسط إنفاق الأسر 24.092 درهماً، لكن التشتت زاد من 3.188 إلى 3.378 درهماً، بما يعني اتساع الفروق الترابية في القوة الشرائية وأنماط الاستهلاك. هذه الفجوات ليست تقنية؛ إنها تحكي عن أسواق محلية متفاوتة الحيوية، وخدمات عامة متفاوتة الجودة، وفرص عمل غير متكافئة.

الخلاصة التي تفرضها هذه الصورة المركبة أن المشكلة ليست في “نقص النمو” بقدر ما هي في “نوعيته وتوزيعه”. اقتصاد ييركز صناعته في محورين جغرافيين، ويترك مناطق واسعة تحت رحمة مواسم مطرية شحيحة، ويُراكم تفاوتات في الدخل والإنفاق سنة بعد أخرى. المعضلة حسب المحللين، تحتاج إلى سياسة ترابية شجاعة تعيد توجيه الاستثمار العمومي والمحلي، وتربط تحفيز القطاع الخاص بمؤشرات الأثر الجهوي، وتُسند تنويع القاعدة الإنتاجية في الجهات المتأخرة، من الفلاحة الذكية مائياً إلى الصناعات الصغيرة والخدمات ذات القيمة المضافة. بدون ذلك، ستظل معدلات وطنية “مقبولة” تُغطي على واقع جهوي غير مقبول اقتصادياً واجتماعياً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى