بين حماية الإنتاج الوطني وهاجس الاحتكار.. تعديلات مثيرة تشعل نقاش المالية

حسين العياشي

بعد ساعات طويلة من النقاش المتواصل داخل لجنة المالية والتنمية الاقتصادية ثم في الجلسة العامة، واصل مشروع قانون المالية 2026 مساره داخل مجلس النواب، وسط سجال حاد بين أغلبية تعتبره نصاً واقعياً ومتوازناً يعزز تنافسية الاقتصاد الوطني، ومعارضة ترى فيه تكراراً للخيارات نفسها وافتقاراً لجرأة الإصلاح.

وجاءت المصادقة على الجزء الأول من المشروع بعد ما يقارب ست عشرة ساعة من المداولات، انتهت إلى تصويت بأغلبية الحاضرين، 24 صوتاً مقابل 10 أصوات رافضة، دون أي امتناع. خلال المناقشة، تركز الجدل حول تعديلات ضريبية أثارت الكثير من الحساسيات، من بينها الرفع من الرسوم الجمركية على زجاج السيارات من 2,5% إلى 17,5%. خطوة بررتها الحكومة برغبتها في حماية الصناعة الوطنية ودعم خلق فرص الشغل، والتعويل على قدرة قطاع محلي يمكنه إنتاج 600 ألف وحدة سنوياً ضمن برنامج لتعويض الواردات بالمنتوج الوطني، فيما رُفض مقترح لحزب العدالة والتنمية كان يدعو لرفع هذه الرسوم إلى 30%.

ومن المنطق نفسه الذي يدعم السيادة الاقتصادية، حسب مبررات الحكومة، تم اعتماد تعديل آخر يفرض رسوماً جمركية بنسبة 17,5% على 22 نوعاً من الاختبارات الطبية السريعة، من قبيل اختبارات كوفيد-19 وفيروس السيدا والتهاب الكبد. غير أن هذا الإجراء لم يمر دون اعتراض، إذ حذّرت المعارضة من احتمال تكريس احتكار لفائدة مختبر محلي بعينه، مطالبة بقدر أكبر من الشفافية في تدبير الصفقات المرتبطة بهذه المعدات الصحية.

وفي سياق مغاير، دافع الفريق الحكومي بشدة عن قرار إعفاء الأندية الرياضية المُحَوَّلة إلى شركات من الضريبة على الشركات لمدة خمس سنوات. وأوضح الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، فوزي لقجع، أن الأمر ليس امتيازاً ضريبياً بقدر ما هو ملاءمة قانونية تهدف إلى إدماج كرة القدم في النسيج الاقتصادي الرسمي، على غرار قطاعات أخرى استفادت من تحفيزات انتقالها نحو نماذج حكامة جديدة.

كما طُرحت مقترحات لرفع الضرائب على التبغ والسجائر الإلكترونية والمشروبات الكحولية، تقدمت بها المعارضة، غير أن الحكومة رفضتها محذرة من المخاطر المرتبطة بانتعاش السوق السوداء وتراجع المداخيل الجبائية، فضلاً عن تهديد الصحة العامة عبر زيادة تداول منتجات غير مراقبة. وأكدت المعارضة في المقابل خطورة هذه المواد، مشيرة إلى احتوائها بعض العناصر المحظورة في الاتحاد الأوروبي.

وفي نقطة أخرى مثيرة للجدل، نوقِش مقترح يتعلق بفرض رسوم إضافية على استيراد النفايات والإطارات المطاطية المستعملة، خوفاً من تحويل المغرب إلى ساحة لتصريف مخلفات صناعية أجنبية، إلا أن الحكومة تشبثت برفض هذا التعديل، مؤكدة التزامها التام بالأنظمة القانونية المنظمة لهذه الواردات.

ومع توالي هذه السجالات، ظلّت القراءة السياسية للمشروع منقسمة بحدة. فالأغلبية البرلمانية ترى في قانون المالية 2026 امتداداً لرؤية اقتصادية تقوم على التنافسية والاستدامة والعدالة المجالية، وتعتبره متماشياً مع التوجيهات الملكية الواردة في خطاب العرش وخطاب افتتاح السنة التشريعية. كما تشدد على أن المشروع يوازن بين تمويل الأولويات الاستراتيجية وتعزيز مرتكزات الدولة الاجتماعية، من خلال تخصيص نحو 140 مليار درهم لقطاعي الصحة والتعليم، وخلق 27 ألف منصب مالي، إلى جانب رصد 380 مليار درهم للاستثمار العمومي، الذي تصفه بأكبر مجهود استثماري في تاريخ المالية العمومية.

ورغم تفاؤل الحكومة، تبقى المعارضة أقل اقتناعاً بقدرة المشروع على إحداث القطيعة مع الأساليب التقليدية. فهي ترى أن الرفع من عدد مناصب الشغل في الصحة والتعليم لا يعكس واقع الخصاص، بالنظر إلى اقتراب نسبة كبيرة من الموارد البشرية من سن التقاعد، وإلى أن نسبة استغلال المناصب المالية في قطاع الصحة لا تتجاوز 42%. كما تنتقد اعتماد الحكومة المتزايد على الاقتراض وصيغ التمويل المبتكرة لتمويل نفقات دائمة بموارد مؤقتة، معتبرة أن هذا النهج قد يهدد التوازنات المالية على المدى المتوسط.

ولا تتردد المعارضة في المطالبة بالإسراع بإصلاح المؤسسات والمقاولات العمومية، التي تكلف الميزانية بين 50 و60 مليار درهم سنوياً، داعية إلى معالجة هذا النزيف قبل التفكير في أي تعبئة إضافية للموارد. وبين هذه الرؤى المتباينة، يواصل مشروع قانون المالية رحلته التشريعية محمّلاً بأسئلة كبرى حول ما إذا كان قادراً على الدفع بعجلة الإصلاح، أم أنه سيكتفي بإعادة إنتاج وصفات قائمة منذ سنوات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى