بين رُبعين…أي مآل آل إليه نزاع الصحراء في رُبعي القرن الأول والثاني؟؟

عبد الفتاح نعوم

حينما اعتلى الملك محمد السادس عرش أسلافه المنعمين، منتصف العام 1999، كان نزاع الصحراء قد أوشك على إقفال ربع قرن منذ أن افتعله المفتعلون في العام 1975، ولم يكن يفصله عن ربع القرن الأول سوى سنة واحدة، واليوم مع حلول الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش المجيد، يكون هذا النزاع قد طوى ربع قرنه الثاني، ولم يعد يفصله أيضا عن إنهاء نصف القرن سوى سنة واحدة، ووحده الرصد الكرونولوجي الفاحص للنزاع المفتعل حول صحراء المغرب كفيل بأن يكشف بشكل بارز كبريات المحطات المفصلية التي أبانت عن تفوق المغرب ونجاحه الدبلوماسي، قياسا إلى خسائر الجزائر وبوليساريو، وأيضا قياسا إلى الحصيلة والتحديات اللتان حملهما ربع القرن الأول وانطلق بهما بسرعة الضوء ربع القرن الثاني.

لقد بدأ عهد الملك محمد السادس بالتزامن مع واقعتين أساسيتين؛ جعلتا العنوان البارز للتدبير السياسي للنزاع المفتعل يكون هو ذلك العنوان المرتبط بفشل البوليساريو على جميع الأصعدة، ففي خضم الأشهر الستة الأولى من هذه الحقبة، توقفت نهائيا عملية تحديد الهوية بعد مماطلات البوليساريو وتلاعباتهم حيال المعايير الخمسة التي سبق لهم أن وافقوا عليها، وذلك بعدما تسببوا في تجميها خلال العام 1995، قبل أن تستأنف بعد اتفاق هوستن في العام 1997.

وبالتالي ففقد بدأ عهد الملك محمد السادس بانكشاف تام لخواء وتهلهل الطرح القانوني لمرتزقة بوليساريو، وافتتضاح خوفهم من الحقائق الديموغرافية التي تصطدم بها أوهام الانفصال، فبدأت النزعة تتجه روديا رويدا نحو إثارة نزعات الفوضى الاحتجاجية أو الركوب على أي احتجاج ولو كان عابرا وجزئيا، وكانت بداية هذه التوجه من أحداث “النكجير”، بعد أسابيع قليلة من تولي الملك محمد السادس الحكم، وتكرر ذات المشهد خلال عامي 2005، و2010، ليقفل خطاب العام 2014 الباب نهائيا أمام مثل هذه الممارسات والهلاوس التي تسكن عقل البوليساريو.

لقد بدأ يلجأ البوليساريو إلى مثل هذا الأساليب منذ بداية ربع القرن الثاني من عمر هذا النزاع، بعدما تأكد أن كل مخاضات ربع القرن الأول قد انتهت إلى تكريس هزيمته؛ العسكرية منذ العام 1991، والدبلوماسية منذ أن نشرت الأمم المتحدة لوائح لجنة تحديد الهوية سنة 2000، بعد فترة قصيرة من انطلاق مبادرة الملك محمد السادس القاضية بتشكيل لجنة مختصة في متابعة موضوع الصحراء المغربية والنزاع المفتعل حولها، والتي بلغت مداها مع تأسيس المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية سنة 2006، وكل ذلك في حيز زمني بدأت اللغة الأممية تتحول معه نحو التسليم باستحالة إجراء استفتاء بسبب تعنت وتلاعبات البوليساريو، وبدأ السعي نحو البحث عن حل واقعي وعملي وقابل للتطبيق، وقد حملت لغة المبعوثين جيمس بيكر وبيتر فان فالسوم الكثير من المضامين الذي تدل على ذلك التوجه، ناهيك عن مواقف كل من فرنسا؛ حاملة القلم حينئذ، والولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت فعليا منذ العام 1995 تطور أطروحاتها صوب حل واقعي وطني/سيادي ديمقراطي لهذا النزاع المفتعل، وهو المنحى الذي لم يكن للجزائر سوى أن تعاكسه بمبادرة مُخزية ستبقى وصمة عار في جبينها، منذ أن قدمتها في العام 2002 في شكل مقترح لتقسيم الصحراء المغربية.

ولم يكد العام 2006 أن ينتهي، حتى أعلن الملك محمد السادس، في خطاب ذكرى المسيرة الخضراء، عن إطلاق مبادرة الحكم الذاتي ليجري تقديمها إلى مجلس الأمن في العام 2007، ولتصبح الأساس التفاوضي والسياسي للنزاع المفتعل، والعنوان البار للملف داخل أروقة مجلس الأمن، حيث بات النقاش في مجلس الأمن يدور وجودا وعدما حول هذه المبادرة كأساس للحل، ومنذئذ أصبح للمغرب لغة يتحدث بها مع العالم بخصوص هذا النزاع المفتعل، لغة تطبعها الإيجابية والواقعية والرقي، وبالمقابل احتفظ المرتزقة بلغتهم المطبوعة بالجمود والدوغمائية والماضوية، وبعدما كانوا قد خسروا الكتلة الشيوعية التي دعمتهم منذ افتعال هذا النزاع، جاء العام 2011 فخسروا القذافي، وتسبب غيابه في اندلاع مشكلة الساحل فأصبحت عبئا عليهم، وأصبح إنهاء هذا النزاع مدخلا لمواجهة مشكلة الساحل، كما اقتضت كل قرارات مجلس الأمن التي صدرت منذ العام 2012، فيما استمر المغرب في خطابه الموجه للعالم على النحو الذي جعل أزيد من 100 دولة في الأمم المتحدة تعلن دعمها الصريح لمبادرة الحكم الذاتي، وحوالي الثلاثين دولة قد فتحت قنصليات لها في العيون والداخلة، مما زاد من منسوب نجاحات المغرب، وفي الحين نفسه زاد من ورطة وفشل وإحباط المشروع الانفصالي.

وفي العام 2014، وخلال خطاب ذكرى المسيرة الخضراء، وجه الملك محمد السادس الأنظار نحو المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق الجزائر، باعتبارها الطرف الحقيقي والأساسي الذي إن لم يتحمل مسؤوليته قانونيا، فإن هذا النزاع الصوري المفتعل لن ينتهي، وهي الرؤية التي سينتج عنها كلية مسلسل الموائد المستديرة، بدءا من متم العام 2017، لتشارك الجزائر في مناسبتين، ولتنكشف سوأتها أمام أنظار الفاعلين الدوليين، فتحجم عن المشاركة بعد ذلك إلى يومنا هذا، وهو ما يؤدي إلى خلاصة واضحة قوامها أن الدبلوماسية الملكية اتجاه هذا الملف تعامل مختلف التفاصيل بنفس القدر من الأهمية، وتركز بحس توقعي عالِ على استقراء تاريخ النزاع وملابساته ووضع خارطة طريق لمآلاته، فالواضح أن الملك محمد السادس قد باشر إدارة الدبلوماسية المغربية بخصوص النزاع المفتعل لربع قرن، بالانطلاق من القواعد الصلبة التي رسخت خلال الربع القرن الأول، ولا غرابة في ذلك فالملك محمد السادس قد انخرط مبكرا في تفاصل هذا النزاع منذ أن كان وليا للعهد، وتشكلت معالم فكره الدبلوماسي والسياسي داخل المدرسة الدبلوماسية العظيمة التي بناها الملك الراحل المغفور له الحسن الثاني.

وبالتزامن مع نكوص الجزائر عن المشاركة في الموائد المستديرة حدث منخفض جوي سياسي في الجزائر مثله الحراك الجزائري الموؤود، وانتهى باستلام زمام الأمور هناك من طرف زمرة من الهواة الجهلة الممتلئين حقدا وفضاضة، فكان السعي من جانبهم نحو تعديل موازين القوى قبل العودة إلى التفاوض، ومن هناك جرت المحاولة الأخيرة للعب ورقة الديموغرافيا عبر مناورة الكركارات، والتي أحبطها المغرب وحولها إلى فرصة لتأكيد جدارته القانونية والأمنية، ولإقناع شركائه الكبار بجدوى شراكته معهم، ولذلك تلاها مسلسل حافل من المكاسب شكل انعطافة حقيقية في مسار النزاع، من الاعتراف الأمريكي إلى القرار 2602 وصولا إلى إحداث النقلة في المواقف الأوروبية بدءا بالإسبان والألمان وصولا إلى الفرنسيين، وبالموازاة مع كل هذا حصد الطرف البولي-جزائري الخيبات تلو الخيبات، وأظهر حجم البون الشاسع بين خطابه الذي يرغد ويزبد ويهدد ويعربذ، وبين إمكانياته على الأرض التي لا تتعدى القدرة على رفع حجر من مكانه، وحيث الاستحالة من “دولة” وتنظيم عسكري إلى كائنين افتراضيين يعيشان في عالم مواز، يقتاتان على التقاط الصور مع من تيسر من زعماء العالم، والتسلي برسم خريطة مبتورة للمغرب، ورعاية نفر من نشطاء التواصل الاجتماعي من محدودي المعرفة وسيئي الخلق.

لقد جمعت المنهجية الدبلوماسية للملك محمد السادس بين الحنكة والدراية والذكاء من ناحية، وبين الوقار والثبات والجدية والصدق من ناحية ثانية، ولهذا تلاقت في فكر الملك محمد السادس كل السبل والمسارات، من عوالم السياسة والقانون والفكر إلى عوالم الاقتصاد والشراكات وصولا إلى عوالم الاجتماع والثقافة وشؤون الروح، تلاقِ بقدر ما يكشف عن عبقرية فذة يحتفي بها القرن الواحد والعشرون برمته، فإنه يكشف عن عقل سياسي وثقافي مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يتوارث قيمه وثوابته وعراه ملوك هذا البلد الحبيب، ويحرصون عليها أشد ما الحرص يكون، ولهذا تراكمت عبر ربع قرن عشرات الانتصارات الدبلوماسية وعضدت عشرات الشراكات الاقتصادية الدولية، وأحبطت عشرات المخططات القميئة، وأصبحت صحراؤنا الحبيبة منصة لمشاريع الربط القاري داخل القارة وخارجها وفي جوارها، بعدما أراد الحاقدون أن تكون الصحراء المغربية هي خاصرته الرخوة واليد التي توجعه، فإذا بها تصبح بفضل هذه المنهجية، وخلال ربع قرن هي نقطة قوته، وهي علامة جدارته الدولية بالريادة وبالشراكات العملاقة التي تغير مجرى التاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى