تخصص علم النفس… قنبلة موقوتة تهدد السلامة النفسية للمغاربة

فؤاد يعقوبي*
*مختص في علم النفس الإجتماعي في السياق المغربيفؤاد يعقوبي

إن واقع تخصص علم النفس بالمغرب يكشف عن فوضى صادمة، وغياب تام لإطار قانوني ينظم المهنة ويحمي المواطن من العبث والتلاعب بآلامه النفسية. فالمشهد اليوم يعج بأشخاص يقدمون أنفسهم كأخصائيين نفسيين دون أي تكوين جامعي مؤهل، يفتتحون مكاتب، يستقبلون المرضى، ويتاجرون في معاناة الناس بلا رقيب ولا ضابط.

المفارقة الكبرى أن المغرب يكون سنويا آلاف الطلبة في شعبة علم النفس بمختلف الجامعات، غير أن الدولة لم تحدد بعد قانونا ينظم المهنة أو يفتح أمامهم باب الممارسة القانونية. وهكذا يجد الخريج نفسه تائها بين شهادة أكاديمية لا تخوله الإشتغال، وسوقٍ فوضوية تهيمن عليها وجوه من خارج التخصص تستغل غياب المراقبة لتبني لنفسها صفة زائفة فوق آلام الناس. فكل من حضر دورة تدريبية في التنمية الذاتية أو حصل على شهادة افتراضية من مركز غير معترف به، بات يقدم نفسه “خبيرا نفسيا”، ويظهر في الإعلام ومواقع التواصل كأنه مرجع علمي. والمعضلة أن المريض النفسي، الذي يبحث عن العلاج، قد يسقط في أيدي مدعين يفاقمون معاناته.

في غياب إطار قانوني واضح، تضيع هوية التخصص بين الأكاديمي والمهني. الطلبة الذين أمضوا سنوات في التحصيل العلمي يعيشون إحباطا عميقا، فيما يستولي على المشهد من لم يفتحوا يوما كتابا أكاديميا. إنها مفارقة مؤلمة: المؤهل العلمي مُهمش، والمُدعي هو من يحتل الواجهة. هذه الفوضى لا تضر بالمهنة فقط، بل تمس السلامة النفسية للمجتمع كله، لأن العلاج النفسي ليس مجالا للتجارب العشوائية أو “الطاقة الإيجابية”، بل تدخّل دقيق في أعماق الإنسان، يتطلب تكوينا صارما وأخلاقيات واضحة ومتابعة مهنية حقيقية.

إن غياب المراقبة الرسمية جعل بعض “الأخصائيين” الجدد يعبثون بأعراض الناس دون وعي أو مسؤولية. هناك من يستغل معاناة النساء، ومن يروّج وصفات عاطفية بدلا من العلاج العلمي، ومن يفرض جلسات بأسعار خيالية دون أي تأطير أو ضمانة قانونية. هذه الممارسات ليست مجرد مخالفات مهنية، بل خطر حقيقي على الصحة العامة، إذ تؤدي أحيانا إلى تدهور الحالات النفسية أو حتى إلى الإنتحار نتيجة تدخلات غير مؤهلة. إنها مأساة تتكرر في صمت، بينما الحكومة تلتزم الحياد وتلمع صورتها الإنتخابية.

المغرب في حاجة ماسة إلى قانون واضح وصارم يحدد من هو الأخصائي النفسي لجميع فروعه، ويضبط شروط التكوين والممارسة والمسؤولية المهنية، على غرار ما هو معمول به في الطب والصيدلة والمحاماة. قانون يُعيد الاعتبار لخريجي الجامعات ويمنح المواطن الثقة فيمن يتعامل معه حين يضع أمامه أسراره ومعاناته.

إن ترك هذا التخصص في فراغ قانوني ليس مجرد تقصير إداري، بل تهديد مباشر للأمن النفسي للمغاربة. لقد صار الوضع أشبه بقنبلة موقوتة، كل يوم تتأخر فيه الدولة عن تنظيم المهنة هو يوم يُضاف إلى رصيد الإنفجار المقبل. فالعقل المغربي اليوم يحتاج إلى الحماية، تماما كما يحتاج الجسد إلى الطب، ولا حماية ممكنة في ظل فوضى الألقاب والإدعاءات. آن الأوان أن يُرفع صوت العقل فوق ضجيج المتاجرين بالأوهام، لأن السلامة النفسية للمغاربة مسؤولية وطن بأكمله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى