تعالوا أحدثكم عن الصحافة

 

كتبه د عبد الوهاب الرامي

عن أوهامها وعن مكاتب ومعاهد ومدارس وكليات لم تفق بعد من صدمة ذوبانها في القرية الصغيرة التي كان الكندي ماك لوهان يظن بها خيرا.

كل الآمال العظام التي عقدت على الصحافة تبخرت وعلا خيط دخانها في عنان ما وراء السماء.

الصحافة اليوم تفقد جمهورها الذي تحول إلى متلصص يومي على أعراض الناس، ومخاتل في أسواق الفيسبوك والواتساب وإنستغرام والتيك طوك. يؤمن، من كثرة التيارات التافهة التي تتجاذبه، بالشيء ونقيضه، فيحسب الشر خيرا والخير شرا.

أتحسر على صحافة كانت حجة ناصعة، وعلى ضياع العبارة السلسة المتهادية على محج الفكر. أنعي وفاة المفكر ليس لأنه لم يعد بإمكانه التفكير بل لأن بورصة الأفكار هجرتها القامات الكبرى ولم يعد يملؤها غير نعيق البوم. بل إن شبح ما تبقى من الفكر أصبح متسولا عند بوابات بعض المؤسسات، يمد يده المبتورة عسى أن يجود عليه أحدهم بفلس ينقذه من إفلاسه الذهني.

فزع الناس إلى الذكاء الاصطناعي، بعد أن خانوا ذكاءهم الفطري.

وبعد كل هذا وغيره كثير، نتذكر ان الصحافة كانت مفخرة الشعب على قلة حيلتها، وهي اليوم مقبرة تحتضن أجسادا باردة مات فيها آخر فضول وهو شق كفن المتوفين لمعرفة من هم، ولماذا قضوا وأين ومتى ومع من وكيف.

وهناك، فضلا عن هذا، حفار القبور النزق الذي يهيل بلا هوادة التراب كلما مر على قبر يمكن أن تخرج منه رائحة العفن، أو حتى المسك بالنسبة للمبشرين بجنة الرضوان
.
الصحافة أكلتها العولمة، و”ديمقراطية” التعبيرات الغوغائية التي هي في نفس الآن كناية عن دكتاتورية الحشود، تلك التي تتبع هواها الذي لا تعرف ما هو بالضبط، وهوى الآخرين الذين لا تعرف كذلك ما هو بالضبط.

الأنترنت عدو الصحافة الأول.

فهو فتح الباب على مصراعيه لمن يتصورون أن بإمكانهم التأثير في العالم، إن بمؤخرة مترنحة، أو طرف لسان سليط، أو تفاهة يحسبها بعضهم تسلية في حين أنها تلهية.

الفوضى العارمة على الإنترنت سوء طالع إنساني.

أيها الصحافيون، ليس لكم والله إلا الصبر أو الموت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى