حكومة الفراقشية

إعلام تيفي _ الرباط
حين يعجز المواطن عن شراء كيلو لحم لأطفاله، وتتحول الأضحية إلى حلم بعيد المنال، خرج علينا وزير في الحكومة – لا معارض ولا صحافي – يُعلنها مدوية: 13 مليار سنتيم من أموال الدعم العمومي ابتلعتها بطون المضاربين! هكذا بكل بساطة.
نزار بركة، وزير التجهيز والماء، والأمين العام لحزب الاستقلال، لم يكن في ندوة فكرية ولا ندوة معارضة، بل على شاشة القناة الأولى الوطنية، يروي للمغاربة قصة فساد معلن، ببرودة دم، كأنه يحدّثنا عن فيلم وثائقي من خارج الحدود.
قالها دون أن يرف له جفن: “استوردنا الأغنام، منحنا دعماً بـ500 درهم عن كل رأس، ومع ذلك تم بيع الأضاحي بثمن السوق، وأحياناً بضعف الثمن. كبش بـ2000 درهم بيع بـ4000 درهم، والربح بلغ 100%”.
ثم أضاف ما يشبه التنصل: “هذا غير أخلاقي”.
غير أخلاقي؟ نعم.
لكن قبل الأخلاق، ماذا عن القانون؟ عن المراقبة؟ عن المحاسبة؟ عن من يجب أن يتحمل مسؤولية هذا العبث؟
ومتى كان الفساد الأخلاقي أخطر من الفساد المالي، حين يتحوّل الدعم العمومي إلى مصدر إثراء سريع؟
480 ألف رأس من الأغنام تم استيرادها العام الماضي، بمبلغ دعم بلغ 240 مليون درهم. ثم جاء الدعم الإضافي “في المنبع”، ثم الإعفاءات الجمركية على استيراد 200 ألف رأس من الأغنام و100 ألف من الأبقار، ثم تم رفع الحصة إلى 120 ألف رأس من الأبقار. كل هذا، من أجل أن يُقال للمغاربة إن اللحوم ستصبح في المتناول. لكن الذي حدث هو العكس.. الأسعار ارتفعت، اللحوم اختفت، والمضاربون راكموا الثروات.
من جهة أخرى، كشف وزير الصناعة والتجارة وعضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، رياض مزور، أن 18 مضاربا فقط يتحكمون في السوق الوطني للحوم. وأن هامش الربح، الذي كان يجب أن لا يتجاوز 10 دراهم للكيلوغرام، وصل إلى 40 درهما، بفعل احتكار السوق، والاتجار في الدعم، وتواطؤ بعض من هم داخل المؤسسات.
نعم، تواطؤ. لأن من يراقب، صمت. ومن يشرّع، غض الطرف. ومن يترأس الحكومة، تزيّزنْ.
14.45 مليار درهم هو الغلاف المالي لعقد دعم سلسلة اللحوم الحمراء، منها 7.75 مليار درهم من المال العام، دُفعت بسخاء، وتبخرت برشاقة، دون أثر على السوق، ودون أثر على المواطن. هل سأل أحد أين ذهبت هذه الملايير؟ هل رأينا استقالات؟ هل سمعنا بإحالات على القضاء؟ كلا.
بل سمعنا وزيرا، عضوا في الحكومة، وزعيم حزب عريق، يشتكي من قرارات حكومته، ويصف ما يجري باللا أخلاقي، ثم يتمسك في نهاية حديثه بـ”الانسجام الحكومي”!
أي انسجام هذا؟
انسجام على الصمت؟
على حماية المضاربين؟
على اقتسام كعكة الدعم العمومي تحت الطاولة؟
والأنكى أن رئيس الحكومة نفسه، عزيز أخنوش، لم يعلّق، لم يظهر، لم يتكلم، لم يعتذر، لم يبرر… صمت مُريب، ثقيل، مرفوض، كأن الكارثة لا تعنيه، وكأن رسائل جلالة الملك موجهة لشخص آخر غيره. صمت يعكس عجزا سياسيا مدويا، من رجل جاء باسم الكفاءة والصرامة، فإذا به يصمت في زمن الجشع، ويغيب حين يُنهب المال العام.
رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، محمد الغلوسي، دعا إلى فتح تحقيق عاجل، ودعا النيابة العامة إلى الاستماع لجميع الأطراف، بمن فيهم نزار بركة نفسه. وهو ما بدأت ملامحه بعد تعليمات وُجّهت للفرقة الوطنية للشرطة القضائية لفتح تحقيق بشأن شبهة اختلاس أموال الدعم حسب ما أوردته تقارير إعلامية.
لكن، هل نملك الجرأة فعلاً للوصول إلى الحقيقة؟
أم أننا أمام مسرحية جديدة، تنتهي كما بدأت، دون محاسبة، ودون كشف اللوبيات التي استباحت السوق، والدعم، والسيادة الاقتصادية؟
هذه ليست أزمة كباش، ولا أزمة لحوم، ولا حتى أزمة دعم.
إنها أزمة أخلاق سياسية، وأزمة حكومة فقدت شرعيتها الأخلاقية والشعبية. حكومة تتبادل الأدوار: من يوزع المال، من يبرر، من يحتج من الداخل، ومن يصمت.
“حكومة الفراقشية”… حيث الدعم يُمنح للأقوياء، والمحاسبة تطال الضعفاء، والقرارات تُصنع في الظل، والضحايا يُطلب منهم الصبر والدعاء.
نعم، مع “حكومة الفراقشية”، لم يعد الفساد مستترا… بل صار خبرا رسميا يُعلن على الهواء مباشرة.
وما تبقى من ثقة… يُسفك كل يوم، بنفس الطريقة: الدعم للجشعين، والغلاء للفقراء.
فمن تبقى له الشرف، فليتكلم. أما من ارتضى لنفسه الصمت… فليعلم أن المواطن لم يعد أصمّا.